ندوة الهُوية الخليجية: هويات متصارعة خيرٌ أم أوطان متماسكة؟!

 

 

د. سَيْف المعمري

كان الأسبوعُ الماضي مشحوناً بالتأمل في التساؤلات، ولم أكُن مُبالغا حين قلت لحضور ندوة "تعزيز الهُوية الوطنية الخليجية"، الذي عقدته الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي، بالتعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، خلال الفترة من 19-22 سبتمبر 2016، في مُقدِّمة تقديم ورقتي التي كانت بعنوان "دور المؤسسات التربوية الخليجية في تعزيز الهُوية: من الهُوية الثابتة إلى الهُوية المتحركة"، أنَّ تلك الأسئلة التي ظهرتْ مُنذ اليوم الأول للندوة أرَّقتني؛ لأنها أسئلة عميقة جدًّا، حاضرة خلال كل العقود الماضية، يتكلم عنها كثيرون لكنْ قليل من يفكر في تأثيراتها المتزايدة على استقرار الدول في المنطقة الخليجية التي تصل مرة أخرى إلى لحظة حرجة من تاريخها المعاصر، عبَّر عنها السفير عبدالله بشارة الأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، حين قال: "الخليج يخوض الآن خمسة حروب كبرى"، كما عبَّر عنها الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز في المحاضرة الافتتاحية للندوة، حين قال: "قدرُنا أننا سنظل مستهدفين دائما"، ليس لأسباب مرتبطة بالثروة والنفط كما قال هذا الأمير، ولكن لأسباب مرتبطة بالدين، هذه الطروحات جعلتنا نفكر في أسئلة كثيرة؛ منها: التوقيت الذي عقدت فيه الندوة، وهو كما عبَّر هذان السياسيان وقت لا يجب أن تعلو فيه أية أصوات على صوت معركة البقاء، وقت يجب أن يكون فيه جميع الخليجيين في خندق واحد لمواجهة الأخطار المتزايدة للحروب الخمسة التي تخوضها دول المجلس، وعبر أحد الحضور بشكل اكثر دقة ووضوحا، حين قال: "لو سقطت المملكة العربية السعودية -لا سمح الله- فسوف تسقط دول الخليج الأخرى".

وبالتالي طالما أن الجميع في الخليج يشعر بهذا القلق الوجودي، كنت أتمنى أن يكون عنوان الندوة مرتبطا أكثر "بدور الهُوية الوطنية في مواجهة الأخطار الخارجية"، لسبب منهجي وهو أنَّ المخاطر المتعلقة بالهُوية الوطنية على المستوى القطري والخليجي كانت مثل كرة الثلج تتدحرج وتكبر شيئا فشيئا، حتى أصبح حجمها يفوق قدرة الدول الخليجية الصغيرة في التغلب عليها، مما جعل الواقع الداخلي قائما على "هويات متصارعة، بدلاً من أن يقوم على "هويات متصالحة"، مؤمنة بتعددية مكونات أي وطن بدلاً من تكريس ثنائيات تؤجج الصراع من مثل (مواطن/وافد)، و(وطني/وغير وطني)، و(مخلص/وخائن)، و(محافظ/وليبرالي)، و(منتمٍ/وغير منتمٍ)، و(مع الوطن/مع الخارج)، و(ممتن/وجاحد)، و(شيعي/وسُني)، و(مع الحرب/وضد الحرب)، و(مع الاتحاد الخليجي/ وضد الاتحاد الخليجي)، و(مع الديمقراطية/وضد الديمقراطية)، و(مدني/ومحافظ) (وحضري/وبدوي)، و(سلفي/إخواني)، و(متطرف/ومُعتدل)، و(ديني/وعلماني)، و(قومي/وخليجي)، و(حقوقي/ووطني)، و(عُماني/وسعودي/وبحريني/وقطري/وإماراتي/وكويتي)، وهو تعدُّد هُويَّاتي كبير في خطوطه العريضة، قابل للانشطار أكثر إلى هويات صغرى جدا على مستوى المجتمع الواحد، مما يجعلنا أمام موضوع قد يبدو طبيعياً في كثير من المجتمعات التي قدرت على استيعاب المفهوم الحقيقي للهُوية، ولكنه يبدو غير طبيعي في مجتمعات أخرى لا ترى قيمة لكل ذلك الاستيعاب.

إنَّ الأمرَ تقديم وعاء كبير للمواطنة يمكن لجميع أن يجدوا أماكن متساوية فيه، بدلاً من أن يستحوذ بعض أفراد الهويات على معظم المقاعد، ويتركوا لأفراد الهويات الأخرى مكاناً ضيقاً، يدفعهم أحياناً للتضحية برمي البعض الآخر من الوعاء حتى يظل منسجماً على الأقل ظاهرياً، ومع وجود بوادر لإقصاء البعض يتم الحفاظ على مكاناً مميزا لأصحاب الهُوية الدينية، والتضحية بأصحاب الهُوية الحداثية القائمة على الديمقراطية والمواطنة؛ وذلك لأنَّ مُهمة الفريق الأول هي إقناع أصحاب الهويات المهمشة وغيرهم من بالزهد والطاعة من خلال توظيف الدين، أو بإرسالهم لجهاد تلك الفئات التي تبحث لها عن مكان في هذا الوعاء، وقبل الخروج يمنحونهم صكًّا يضمن لهم دخول الجنة، يرددون على مسامعهم: "موتوا من أجل أن يحيا الوطن"، ويكفِّرونهم لو أجابوا مستنكرين بسؤال غسان كنفاني: "لكن يحيا لمن؟"، ويعمل هذا الفريق أيضا على محاربة أصحاب الهُوية الحداثية القائمة على المواطنة؛ لأن مثل هذه القيم الغربية -من وجهة نظرهم- تُفسد حالة السلم الظاهرة في هذا الوعاء، وهي أفكار شيطانية لا يُقرُّها الدين، ولا تُقرُّها الأعراف والتقاليد، ولا تُقرها الخصوصية التي يتمتع بها هذا الوعاء، الذي يبدو أن لونه واحد، لكن الألوان متعددة، ويبدو أن الجميع فيه يقفون على نفس المستوى لكن في الواقع هناك درجات، ومسافات، والأقرب إلى القمة هو الأقرب للحصول على منافع لا تقرها المجتمعات المدنية الحديثة؛ وبالتالي يبدو أن كل شيء محترم إلا حق المواطنة الذي يجعل الوعاء أقل صراعا، وأكثر تماسكا لمواجهة الأخطار المحتملة.

لا شكَّ أنَّ مُؤتمرا حول الهُوية الوطنية الخليجية، كان يمكن أن يكون أكثر فاعلية لو كان هناك إيمان كبير بضرورة الالتفات إلى الداخل، للإبقاء على حجم كرة الثلج صغيراً يمكن من صهره، سيما حين ظهرت متغيرات وتحديات جديدة مثل الربيع العربي وتداعيتها، وانهيار أسعار النفط التي جعلت الحكومات الخليجية تفكر في الأموال التي تصل إلى جيوب مواطنيها أكثر من تفكيرها في تلك التي تذهب إلى الحروب ودعم جماعات هنا وهناك، والدفع لجيوش إعلامية في الخارج للدفاع عن الوعاء أمام العالم الخارجي، لماذا لا ينظر إلى الداخل إلا وقت الأزمات؟ لماذا تغذى عملية الصراعات بين مكونات المجتمع وبناه الدينية والاقتصادية والفكرية؟ هل يساعد ذلك على بناء هُوية وطنية متماسكة؟ إن الإجابة تبدو صعبة عن هذه الأسئلة، فمن وجهة نظر باقر النجار لا تزال "تشكيلات وحالات التضامن فيما قبل الحداثة، كالقبيلة والطائفة والجماعة الإثنية، تؤدي وظائف سياسية واقتصادية وثقافية من حيث علاقتها بالدولة أو علاقتها بالفرد، فإن أي استثارة لها ستقود إلى قدر من "الهيجان" والحماسة العاطفية يأخذ غالبًا منحى عصبيًّا مدمرًا، وهو في ذلك يثير معضلة عجز عمليات التحديث عن بلوغ مرحلة تشكيل مجتمع المواطنة، وذلك لأسباب قد يكون بعضها ذا ارتباط بعلاقات القوة بين قوى الدولة وصراعاتها، وبعضها الآخر ذا علاقة كذلك بصراع القوة بين قوى المجتمع وحالات التضامن المختلفة أو بينها وبين مؤسسة الدولة أو الحكم".

إنَّ موضوع الهُوية الوطنية في الخليج ليس سؤالاً لندوة كتلك التي عقدت في الكويت خلال الأسبوع الماضي، إنما هو سؤال للحاضر والمستقبل يتطلب قراءة ناقدة بعيدة عن اللغة الدبلوماسية التي يهرب بها الجميع من السياقات الواقعية إلى سياقات قد تبدو في كثير من الأحيان إما سرمدية فيها مبالغة في الطرح كما كان في افتتاح الندوة، أو أنها تأخذ خطابا تعبوياً وطنياً حماسياً لا يحقق أدنى شروط الفاعلية في ظل الأوضاع الحالية، وفي الأسبوع القادم سوف أكمل قراءتي لما جرى في هذه الندوة.

saifn@squ.edu.om