رسالة عاجلة لجلسات العصف الذهني

 

 

د. عبدالله باحجاج

كانتْ ردود الفعل على المقال الأخير "جلسات العصف الذهني المقبلة"، وهى جلسات سينجُم عنها وضع برنامج تنفيذي للتنويع الاقتصادي وفق ما جاء في الرؤية الوطنية 2040، تلكم الردود قد انصبَّتْ كلها على قضايا المحاسبة وتقييم الأداء والشفافية في الكشف عن الإنجاز السنوي، وعن حجم المبالغ المالية التي ستُصرف على البرنامج وتنفيذه، رغم انقسامها إلى ثلاثة مواقف متباينة، هى من حيث التراتبية كالآتي: تشاؤم جامد، وتشاؤم مُنفتح على الأمل، ومتفائلة بقيد الحوكمة المتفاعلة بالشراكة المجتمعية.. تلقَّيْنا هذه الردود على مقالنا عبر مواقع وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.. فهل نتفاءل؟ تساؤل مطروح منذ المقال السابق، وقد تكرَّر فيه عدة مرات؛ وبالتالي فقد أصبح التساؤل يعكس اتجاهات الرأي العام، فهل نتفاءل؟

وتلكم الردود تُعبِّر من جهة ثانية عن ماهية الثقة بين الحكومة والمجتمع بعد الفشل في تطبيق "رؤية 2020"، خاصة في مجال تنويع مصادر الاقتصاد العُماني، وعدم انعكاس النمو الاقتصادي على البعد الاجتماعي، وكذلك في مجال رفع مستوى مهارات العُمانيين وتطوير مواردنا البشرية، هى إذن ردود فعل طبيعية، ومتوقعة، ونهدف من نقلها عبر هذا الفضاء حتى تكون حاضرة بقوة في جلسات العصف الذهني؛ إذ إنَّ هذه الجلسات لا يُمكن أن تتجاهل قوة الرأي العام في بلادنا؛ مما تصبح معه قضية كيفية استعادة الثقة من خلال رؤية 2040، قضية وطنية ينبغي أن تتصدَّر أولويات جلسات العصف الذهني، خاصة وأنها رؤية تحظى بالقبول الاجتماعي، والتساؤل الإستراتيجي الذي يُطرح هنا يدور حول: هل الجهات الحكومية المعنية قد أصبحت قادرة الآن على نجاح رؤى البلاد الاقتصادية؟ وهنا كذلك رسالة عاجلة لجلسات العصف الذهني؛ مفادها، أنَّ بلادنا ليس لديها من خيار آخر الآن سوى النجاح في تحويل القطاعات الخمس؛ وهى: الصناعات التحويلية، والخدمات اللوجستية والسياحة والثروة الزراعية والسمكية والتعدين؛ لاستمرار استقرارنا السياسي وسلمنا الاجتماعي في عصر يفقد فيه النفط أهميته المركزية في تنمية الدول التي تعتمد عليه، ولا يُمكن لمثل بلادنا أن تعتمد على نظام الضرائب المباشرة وغير المباشرة -الجبايات- في تحقيق تنميتها الشاملة المستدامة لن نخفي قلقنا من تطبيق "رؤية 2040"، بما فيها شقها الاقتصادي بعد أن تلاقى مع قلق تلك الاتجاهات العامة، رغم أننا في مقالنا السابق حاولنا أن نُعلي من مساحات التفاؤل أثناء قراءتنا -ورقيًّا- لما ستخرج به جلسات العصف الذهني من آليات وأدوات تنفيذية، لكن تظل الأهم المحاسبة، كيف ستتم؟ ومن قِبَل من؟ فالبرنامج التنفيذي للتنويع الاقتصادي الذي يخضع الآن لجلسات عصف ذهني بخبرات عُمانية وعالمية، سوف يكلف ثروة طائلة من ميزانية الدولة، جزء منها لبيت الخبرة الماليزية وأخرى للشركات، ومن الشركات التي ستستفيد منها؟ لا ينبغي النسيان، وكيف ننسى أننا نمر بأزمة نفطية مفتوحة، وتداعياتها كبيرة على المجتمع، وتمس بنيته الأساسية، تصاعديا، والقادم -لا قدر الله- يُثير القلق؛ وبالتالي: لابد أن تكون هناك إدارة رشيدة وحكيمة لصرف أموال الدولة، ولن يتأتى ذلك إلا بشراكة مجتمعية، فأين موقع مجلس عُمان وبالذات مجلس الشورى من جلسات العصف الذهني؟ ومستقبل دوره في اليات الرقابة والمحاسبة وتقييم الأداء والإنجاز؟ هل ستراقب وتحاسب الحكومة نفسها بنفسها؟ تولد لدينا المشهد الذي يطرحه هذا التساؤل من مصدر مطلع، وهو يلامس هاجسنا القديم، ونثيره هنا من منظور التحوط حتى لا تتكرَّر تجربة الماضي، والماضي ليس ببعيد عن الحاضر، وللأسف لم تفتح ملفات فشله حتى الآن، ولن تفتح إذا ما استمرت الظرفيات والهيكليات التي انتجت الفشل السابق قائمة، واستمرارها في مرحلتنا الوطنية الجديدة سوف يُغلق كذلك ملفات الفشل المستقبلي -لا قدر الله- كما حدث في الماضي مع "رؤية 2020"، فلم نسمع محاسبة أو مساءلة اي مسؤول سابق أو حالي يقف وراء هذا الفشل، فكم من أموال عامة قد دخلت الجيوب الخاصة دون أن تحقق لنا تعددية مصادر الدخل؟ والدليل: لا يزال اقتصادنا يعتمد على النفط بصورة أحادية، فأين التعددية التي اشتغلت عليها الحكومة طوال 25 عاما؟

هل نتفاءل؟ التساؤل لا يزال قائما منذ مقالنا السابق، غير أنه أصبح الآن هاجسا مجتمعيا، هو عالق بين إخفاق تجربة ربع القرن الماضية وبين طموحات الرؤية الوطنية، والإطار النظري للبرنامج التنفيذي للتنويع الاقتصادي، فمقوماته العلمية تطلق الأمل؛ ففيه رؤية واضحة وأهداف وبرامج تنفيذية عديدة وقياس للأداء والتنسيق الجماعي بين مختلف القطاعات الاقتصادية، والأهم في هذا الإطار انفتاح القطاعات الاقتصادية على البيئة المحلية والعالمية، ولها انعكاسات مباشرة على التنمية الاجتماعية؛ وعلى وجه الخصوص: التعليم، والصحة، والشباب، والثقافة، والحكومة الإلكترونية...إلخ. وفي مقالنا السابق أشرنا إلى نماذج من الانعكاسات الاجتماعية المحتملة -يُراجع المقال- لكنها تظل على الورق، ونجد أنفسنا هنا، نغرق في معمعة التشاؤم الاجتماعي من مستقبل التطبيق؛ فلنا معه تاريخ مُؤلم جدًّا، وهذا الألم هو الذي يجعل ردود الفعل تتحد بشان قضايا المحاسبة والتقييم والشفافية، فهل ينبغي أن يراقب الوزير نفسه؟ أو تحاسب الحكومة نفسها؟ لابد من إشراك كل مؤسسات الدولة الحكومية والرسمية بما فيه مجلس عُمان بجناحيه المنتخب والمعين ومؤسسات المجتمع المدني عبر إقامة مركز وطني مُتخصِّص لمراقبة ومساءلة ومحاسبة المعنيين بتحقيق البرنامج التنفيذي للتنويع الاقتصادي لضمان النجاح الذي تُراهن عليه البلاد في ديمومة استقرارها، وما دام هذا حجم الرهان، فلا يجب أن يضع مسؤوليته في يد الحكومة فقط، ويظل هناك تساؤل يشغلنا كثيرا وهو دور بيت الخبرة الماليزية في تنويع بنية اقتصادنا الوطني، كيف سيكون دورها؟ وهل تمثل الحكومة الماليزية أم تنتمي لشركة خاصة؟ وكم ستستنزف من خزينة الدولة؟ تساؤلات تشرع لمقال مقبل.