"وأذِّن في الناس بالحج.."

 

 

حاتم الطائي

هبَّتْ نسائم الرَّحمة، مُحمَّلة بعَبَقٍ يستمدُّ رياحينَه من قُدسية مَشْعَر عظيم، خَتَم الله به أركان الإسلام، ليكون مُتمِّماً لها؛ ومُفضَّلا عليها زماناً ومكاناً؛ إذ يُمثِّل "الحجُّ" مَوْسمًا ربَّانيًّا تتجسَّد فيه معانٍ سامية، حُبلى بالقيم التي استوطنتْ صَمِيْم ديننا؛ مُدثِّرة العشرَ الأوَل من ذي الحجة بثَوْب الأفضليَّة على أيام العام كما أخبر بذلك نبينا الكريم، كمدرسة تُسقي الفردَ من كؤوس التربية والعِبَر والتعاليم -الأخلاقية والسلوكية- نحتاج الامتثال لها في سائر أيامنا وجميع مَوَاسمنا؛ حتى تنصلحَ الحال الرازحة تحت وَطْأة الخلاف وأعاصير الشقاق في بيئة مليئة بالنواقض يرتع فيه شبح الاحتراب.

إنَّ تحقُّق قِيَم الحجِّ التعبديَّة على النفس والسلوك، لا يقتصرُ على الممارسات البدنية الخالية من استلهام المعاني الكامنة وراء شعائر هذا المنسك فحسب، بل يُحقِّق الحجُّ أهدافه بوَعْي الفرد، وتفاعله نفسيًّا وفكريًّا مع كل فِعْل يقوم به، أو نداء يُطلقه، أو مُناجاة يُردِّدها. إذ تروي دُروس السِّيَر والآثار مجموعةً من الآفاق التي وردت في الحج وتجلَّت في هذه الرحلة المباركة؛ سواء في أحكامها، أو في أجوائها، أو حتى مُستلزماتها، والتي تعزِّز ترابُط عُرى الرسالات السماوية الثلاث، بتكريس الإيمان بالله ورسله وكتبه.. فالأضحية في الحج والمزار المقصود فيه، وكثير من مناسكه، تتصل بنبيِّ الله إبراهيم أبي الأنبياء؛ بمَنْ فيهم: موسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء محمَّد.

فبالحجِّ، أذَّن إبراهيمُ عليه السلام، وبه خُتِمت لمحمَّد أركان دينه الحنيف، وبَيْن الزمانيْن تشكَّلت مجموعة من القيم، تربِّي الإنسانَ على التواضع والبساطة في الحياة والتجرُّد من مُختلف أشكال الترفُّع والتعالي، مُعزِّزةً فاعلية التعاون لبناء الإنسان والأوطان.. مناسك وشعائر تتجلَّى فيها حالة المساواة بين الناس في أبهى صورها؛ فتلك التنوُّعات البشرية المختلفة والمتعدِّدة -لونا ولسانا وجنسا ومذهبا، وحتى سياسيًّا (باعتبار السياسة أفيون هذا العصر)- تراها تقوم بنفس الأعمال في نفس الوقت وبصورة موحَّدة وبنداء واحد، ولا يوجد بينها أي تمايز؛ ليبقى الحجيج جميعهم مُتعايشين مع حالة الأمن والسلم الذاتي والمجتمعي، فلا يجوز لهم الاعتداء على أيِّ كائن من كان؛ في مشهد إنسانيٍّ يمزجُ السلام الروحي بالأمن والاطمئنان العام والشامل.

كما تبرُز خُصوصية الحجِّ ومناسكه أيضاً في مُساهماته ببناء شخصية الإنسان المعتدل أخلاقيًّا وسلوكيًّا؛ من خلال اغتنام فرصة اجتماع الناس في هذه الرحلة المباركة، وما تفرضه تلك الحالة من خشوع يمنحُه فرصة النظر إلى الأعمال بعَيْن مُغايرة؛ يعرف معانيها ويستكنه مضامينها؛ وهي حالة يُمكن صياغتها في عبارة "التعاون"، كقيمة مُعبِّرة عن عُمق حركة التعامل مع الناس في هذا الموسم البوَصْفِها أداة للإصلاح، وآلة لبناء الشخصية السوية والمستقيمة، فـ"آية التعاون" التي جاءتْ في القرآن الكريم حاثَّة المسلمين عليه في البرِّ والتقوى، جاءت في سياق الحديث عن الحج والتواجد في بيت الله الحرام والشهر الحرام؛ وهو ما يعني أن حركية الحج جماعيَّة تتفاعل فيها مختلف النفوس ومختلف الثقافات ومختلف المآرب والإرادات؛ وهي بلا شك مُنطلق إرادة التغيير والبناء الصحيح.. بناء إنسان مُتصالح مع نفسه، مُتعايش مع الآخر المختلف عنه، بما يُعزز قيم السلام الاجتماعي المراد تحقيقه.

وكذا الإحرام، والتلبية، والطواف، والسَّعي، والوقوف بعرفات، والأضحية.. كلّها مشاعر ذات مَعْنى عميق، تُوْصِل إلى مقاصد طيبة من تربية النفس، ومعاني الخير كالعفَّة والصبر والتحمُّل وسعة الصدر، والصفح والعفو، والتأدب، والدعوة للخير، وصيانة النظر واللسان والجوارح.. فعلى عرفات، يقف الحجيج شُعثا غُبرا في ثياب بيض غير مُخيَّطة، ثياب موحَّدة، بانتظار الجائزة الكبرى التي وُعِدُوا بها، إذ يُباهي بهم الله ملائكته ويُشهدهم بأنه قد غفر لهم؛ فيخرج الحجيج من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.. جائزة عُظمى يهُوْن معها كل ما يبذله الحاج من تضحيات وركوب للصعاب، وبذل الأموال ومغادرة الأهل والأوطان.

إنَّ الحجَّ مدرسةٌ حقيقية للقيم؛ ما أحوجنا اليوم للتأسِّي بها، وتجسيدِ مَعَانيها في حياتنا -أفرادًا ومؤسسات وأوطانًا- لتستقيم أمورنا بعيداً عن دمار الأنانية المفرطة؛ فعالمَنا العربي والإسلامي اليوم يشهدُ حالة من الشتات والفرقة، بعد أن جدَّفنا بعيدًا عن مَعَاني الوحدة، وتخلينا عن الاستمساك باللحمة الواحدة، وابتعدنا عن قيم التضحية؛ فمشاهد الحُزن التي تتسبَّب فيها الحروب والضغائن والأحقاد من اليمن وحتى العراق وسوريا وليبيا، أضحتْ عنوانا للمشهد الحزين؛ ليعود حجيج هذا الزمان إلى أوطان مُمزَّقة، لا تتوافق مع حقيقة حِكَم الحج ومعانيه؛ تتنازعها الانقسامات والشتات، في الوقت الذي جمعتْ فيه مناسك هذا المشعر المسلمين من مُختلف الفرق والمذاهب والاجتهادات، كتعزيز لمظاهر الوحدة الإنسانية، تتوارى فيه الفوارق بين الأجناس والأعراق.

.. إنَّ كثيرًا من العمل لا يزال بانتظارنا لرأب صَدْعٍ تشقَّقت به صفوف الوحدة والعدالة والتلاحم والإخاء؛ تاركة نُدوب الفرقة والشتات على وجه عالمنا اليوم.. وقبل هذا وذاك، علينا استدعاء ما يحفل به هذا النسك العظيم من معانٍ، والاستفادة من عِبَره ودروسه، واستشعار القيم السامية التي يزخر بها؛ حتى لا تتحوَّل الشعيرة إلى مجرد طقوس لا عُمق لها!