د. سيف المعمري
أكتبُ هذا المقال مُنطَلِقا من رُؤية استشرافية مُستقبلية مبنيَّة على الواقع الذي يمرُّ فيه التعليم في منطقة الخليج، سيما في الفترة التي تشهد فيها هذه الدول تناقضاً كبيراً جدًّا في كثير من الجوانب؛ ففي الوقت الذي يتزايد فيه استيراد العمالة الأجنبية تتزايد بطالة الخريجين في مختلف الدول، وفي الوقت الذي يتمُّ فيه التوسُّع في مُؤسسات التعليم العالي من أجل إعداد موارد بشرية مُتعلِّمة قادرة على النهوض بمُتطلبات التنمية، تسمح دول المنطقة لعمالة أجنبية منخفضة المهارة بأن تشغل أكثر من 80% من وظائف القطاع الخاص، وإذا تمكَّنتْ دول المنطقة من التعايش والسيطرة على هذه التناقضات خلال عقود الوفرة النفطية من خلال امتصاص ضغط العاطلين عن العمل بتقديم آلاف الوظائف في القطاع الحكومي -ليس لها حاجة في الواقع- إلا أنَّ هذه الأداة لن تكون مُتاحة منذ الآن، بسبب تدهور أسعار النفط وما يتبعه من تدهور الموازنات الحكومية، ولا توجد في المستقبل القريب أية مؤشرات على تجاوز هذا الواقع؛ مما سيقود حتماً إلى تنامي أعداد البطالة في صفوف الشباب بنسب مخيفة جدًّا، ما لم يحدث تغيير جذري في سياسات ثلاث قطاعات: التعليم وسوق العمل، والتشريعات على مستوى كل دولة، وعلى مستوى الدول الخليجية مجتمعة.
الإحصاءات التي تعود إلى صندوق النقد الدولي، تؤكِّد أنَّ القوى العاملة الوطنية تنمو بمعدل يتراوح بين 3% و4% كل عام؛ لذا فمن المتوقع أن يدخل إلى سوق العمل بحلول العام 2018 عدد يتراوح بين 1.2-1.6 مليون مواطن في مجلس التعاون، إلا أنَّ القطاع الخاص إذا ظل على وتيرة النمو الحالية دون أي تراجع سيكون قادراً على توفير 600 ألف فرصة عمل للمواطنين؛ مما يعني استيعاب نصف إلى ثلث العدد من الخريجين المستعدِّين لدخول سوق العمل؛ مما يعني أن دول المنطقة ستكون أمام نوعيْن من الضغوطات أحلاهما مر: الأول يتمثل في تجاهل هؤلاء الشباب الخريجين وتركهم يواجهون مصيرهم والبحث عن أية أعمال يقومون بها من أجل توفير لقمة العيش، وتلبية مُتطلبات الحياة المتزايدة بما فيها الضرائب الحكومية؛ مما يُعمِّق بداخلهم الرفض ويكون لديهم مشاعر النقمة، سيما في ظل وجود شركات كبيرة وطنية وأجنبية داخل بلدانهم تتمتع بامتيازات متعددة، لكنها لا تُوظِّفهم من أجل مُضاعفة أرباحها عن طريق توظيف العمالة ذات المهارات المنخفضة التي تأتي بها من الخارج، هذا الواقع سوف يجعل هؤلاء الشباب يشعرون بالتهميش الاقتصادي في بلدان أسهمت فيها فترة الوفرة النفطية في نجاح فئات اجتماعية في تحقيق ثراء يُمكن وصفه في بعض الحالات بأنه "فاحش"، لأسباب ليس من أهمها الجدارة الاقتصادية بقدر ما هو استثمار للنفوذ الرسمي. أما الضغط الثاني، فهو توفير وظائف في القطاع العام من أجل استيعاب التزايد السريع في أعداد الشباب الباحثين عن فرص للعمل والحياة، إلا أنَّ هذا سيقود بسرعة إلى عُجوزات كبيرة في موازنة هذه الدول؛ مما يضطرها للجوء إلى الدين الداخلي أو الخارجي؛ وبالتالي فهي مُعالجة بخطأ أكبر. والسؤال الآن: هل ستكون دول المنطقة قادرة على إدارة هذه الضغوطات بدون إجراء إصلاحات شاملة في مختلفة القطاعات بما فيها القطاع الخاص بما يزيد من قدرته على توظيف المواطنين؟
إنَّ الإجابة عن الأسئلة السابقة صعبة جدًّا؛ فحتى نتمكَّن من تقديم إجابة لابد أن نعرف من هو القطاع الخاص الذي يُراد له القيام بهذا الدور؟ وإذا كان من يقوم بالتشريع هو مكوِّن أساسي للقطاع الخاص؛ فكيف يُمكن له أن يقود إصلاحات تقود القطاع إلى القيام بدور وطني يتمثل في زيادة توظيف القوى العاملة الوطنية، بدلا من السعي لمضاعفة الأرباح على حسابها؟ لأنه لا يُعقل أن يقود التوسُّع الاقتصادي إلى توليد فرص عمل لغير المواطنين؛ فالاحصاءات التي نشرها صندوق النقد الدولي عام 2013 تذكُر أنه خلال الفترة من (2000-2010) وفَّرت حوالي سبعة ملايين وظيفية في دول المجلس ما عدا الإمارات، منها حوالي 5.4 مليون وظيفة في القطاع الخاص، مقابل 1.6 مليون وظيفة في القطاع الحكومي، شغلت العمالة الوافدة 88% منها في القطاع الخاص، و30% في القطاع العام؛ مما يعني أنَّ عشرات الآلاف من الخريجين لا يجدون طريقهم للعمل بصفة في القطاع الخاص بمبرِّر ضعف الكفاءة كما يرى كثير من رجال الأعمال، كما تكشف التقارير الدولية -وبمبرر ارتفاع الأجر أيضا- مقارنة بأجر العاملة الوافدة؛ مما يجعل المواطن غير قادر على المنافسة حتى على وظائف لا تتطلب مهارات عُليا.
وإذا كان لا يُمكن المراهنة على إصلاح القطاع الخاص ونظرته للعاملة الوطنية التي تحددها ليس المهارة في المقام الأول إنما الأجر، فلابد من المراهنة على إصلاح التعليم وجعله مكاناً لبناء المهارات التي تُمكِّن هؤلاء الخريجين من الاستقلالية وتأسيس أعمال خاصة تُخفِّف من الضغط المتوقَّع الذي سيشكلونه خلال العقد المقبل إذا ما استمرت الأوضاع الاقتصادية على نفس الوتيرة، لكن أيَّ تباطؤ في إصلاح مؤسسات التعليم ومناهجها، فإن ذلك يعني بقاء دول المجلس في مرتبة أقل من معظم البلدان المقارن بها من حيث جودة وكمية التعليم المقاسة بمؤشرات المنتدى الاقتصادي، ومؤشرات الاتجاهات العامة في الدراسة الدولية للرياضيات والعلوم (TIMSS)، كما أشارت إلى ذلك نتائج الأعوام السابقة؛ وبالتالي لا يجب التغاضي عن الضعف في مُخرجات التعليم من خلال التدريب أثناء العمل الذي تضطر الحكومات إلى دفع فاتورته لإقناع القطاع الخاص لتوظيف القوى العاملة الوطنية؛ فالتجارب الدولية تشير إلى أنه من الصعوبة مُعالجة البطالة الناتجة عن ضعف العملية التعليمية من خلال الإنفاق على التدريب أثناء العمل.
... إنَّ بقاءَ المؤسسات التعليمية تقوم بدور تعليمي تقليدي لا يُركِّز على بناء المهارات في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية، يقود على حدِّ تعبير جوستاف لوبون في كتاب "سيكولوجية الجماهير" إلى قيامها بتخريج الناقمين والفوضويين"، وكما قال: "فالتعليم الذي يقدم لشبيبة بلد ما يتيح لنا أن نستشرف قليلاً مصير هذا البلد ومستقبله، وتربية الجيل الحالي تُبرِّر كل التوقعات والمخاوف السوداء؛ فمع التعليم والتربية تتحسَّن روح الجماهير أو تفسُد، فهما مسؤولان عن ذلك جزئياً، فقد كان من الضروري تبيان كيف أن النظام الحالي (النظام التعليمي) قد شكَّل وعيها وعقليتها، وكيف أنَّ أغلبية اللامباليين والحياديين، قد أصبحت تدريجيًّا جيشاً هائلاً من الناقمين المستعدِّين لاتباع كل تحريضات الطوباويين وخطباء البلاغة والكلام، إنَّ المدرسة تخرج اليوم الناقمين والفوضويين". فهذه الأعداد التي تخرج ليس من المدرسة فقط ولكن من مؤسسات التعليم الحالي بدون مهارات تمكنها من العمل والحياة، لن تكون مصدر قوة يوماً، إنما مصدر قلق دائم، سيما في هذه المرحلة الحرجة التي تتحول فيها مجتمعات الخليجية من مرحلة لأخرى، تقل فيها قدرة الحكومات على الوفاء بما كانت تقوم به من توظيف من قبل، والخيارات مفتوحة والنتائج المتوقعة واضحة، لكن الإصلاح قراره وتوقيته هو الغامض الوحيد في كل هذا.