حَمَد العلوي
بداية وددتُ التمهيد بملاحظة سريعة، فأنا وغيري من كُتَّاب الأعمدة والمقالات، نتحاشى الخوض في الشأن المحلي؛ لأنَّ الذي نكتبه يصل إلى المتربِّصين ليصوغوه، ويحرفوه ليوافق مهمتهم الموكولة إليهم، فنحن في عُمان نستغل حرية الفكر والرأي، التي حُرمت شعوبهم منها، فنحن نكتب بهدف توصيل رسالة المجتمع إلى المسؤولين لدينا، فيا ليت المسؤولين في بلدنا لديهم ربع اهتمام حاسدي وطننا على انسجامه مع نفسه؛ فيتفاعلون مع ما يرفع إليهم بالإشارة وليس بالتفصيل؛ فيسعون لتبرئة أنفسهم من القَسَم الذي أقسموه أمام صاحب الجلالة سلطان البلاد المعظم -حفظه الله ورعاه- حتى لا يأثموا على ما أهملوا، أو ربما تعمدوا إغفاله عن قصد.
إنَّ دأب السُّلطة على منح الخبرة مع التكليف في قرار التعيين في المنصب، يُعد كارثة بالمعنى الحقيقي في حق الوطن، وهو كذلك مخالف لناموس القيادة والإدارة التي تنظم تقدم ورقي الأوطان، فعلى سبيل المثال، ليس معقولاً أن تأتي بإنسان بلا خبرة في الزراعة، فتطلب منه أن يُنشئ لك حقلاً زراعيًّا مُنتجاً، وليس مقبولاً أن تأتي بإنسان بلا سابق خبرة، فتطلب منه أن يُقيم لك عمارة من عدة أدوار، وهو لم يبنِ زريبة حيوان في حياته، فقس على ذلك كل الوظائف، والمهن في المؤسسات العامة والخاصة، ومع ذلك نرى هذا الفعل دارجاً، بل ومستسغاً لدى بعض المسؤولين؛ فنجدهم يُسلِّمون مرافق مهمة لأشخاص ليس لهم سابق خبرة في المجال الذي يُنقلون ويُعيّنون فيه كرئيس لتلك الوحدة الإدارية، وليس هذا فحسب، بل إن هذا المُعيَّن يُصدق نفسه أو يتخيَّل أنه فعلاً أصبح خبيراً فاعلاً، وكل ذلك بحكم قرار التعيين لا أكثر، خاصة إذا امتلك بعض الأوراق (الكرتونية) مجهولة الأصل والمصدر؛ فهنا تنزل الطامة الكبرى على طالبي الخدمة؛ فتتعقد مصالح الناس، نتيجة البيروقراطية الناشئة عن غياب الخبرة، وخوف المسؤول المُعيّن من الوقوع في الخطأ؛ لذلك يُفضَّل التأجيل والمماطلة أو حتى الرفض.
إذن، نحن نخالف العقيدة التي تقول: "الرجل المناسب في المكان المناسب"؛ لأنَّ هذا المبدأ يتحقق إذا نحن نُعيِّن الإنسان الخبير في المكان الذي يوافق خبراته، وقدراته المهنية مع بعض التحفظ أيضاً؛ حيث يجب النظر إلى قدرات الشخص وملكاته القيادية، مضاف إليها الخبرات التي اكتسبها بالممارسة العملية والتكرار بعيد المدى، ومثل هذا يجب أن يرافق أي تعيين في المراكز القيادية مهما كانت درجة أهميتها؛ لأنَّ المهارات الشخصية، والنضج العاطفي والوجداني، وكذلك النضج الاجتماعي والإنساني، كلها ضوابط لا غنى عنها في شخصية المسؤول؛ لأنَّ القرار الرسمي بالتعيين يمنح السلطة، ولكنه لا يمنح الخبرة مطلقا، إذن أي تعيين بغير فحوى هذا السياق، فإنه يُمثل أعلى درجات التعسف الوظيفي؛ الأمر ينتج عنه إخلال عميق وتأثير سلبي بالغ الضرر على المؤسسة، مهما كانت أهميتها.
وهذا الكلام ليس توجُّساً مما سيحصل في المستقبل، بل هذا ناتج عما حصل من ممارسات يومية حالية؛ حيث يشعر الموظف بالضياع ما لم يكن تحت مظلة مسؤول قيادي كفوء، ينظر إليه مرؤوسه على أنه قدوته الحسنة، ومعلمه على رأس الوظيفة، ويوفِّر له الحماية من الوقوع في الخطأ؛ وذلك بسبب ضعف الإشراف والتوجيه؛ فيكثر التذمر في الوحدة بين الموظفين؛ فيسوء الإنتاج في المؤسسة، فيضطر بعض الموظفين إلى ترك العمل، ومع ذلك يظل الحال تحت مقولة: "الأمور طيبة"، والحقيقة هي خائبة وليست طيبة، وتسري الشيخوخة في ثنايا المؤسسة، وتهدر جهود الأجيال التي أسست وبنت، وكابدت بكل قواها ليرقى الوطن ويتقدَّم.
إنَّ اللجوء لاختيار هذا الموظف بسبب بسبسته وحبوره أمام رئيس المؤسسة، لكي يُقدم على من هو أكفأ منه، فقط لأن هذا الأكفأ رجل يعتز بنفسه، ولا يحني الرأس خنوعاً لمن يرغب في تذلل منه له، فبذلك يضمن الرئيس عمراً طويلاً في الوظيفة؛ لأن ليس هناك من يهدد استقراره فيها، ولكن الانحناءة والبسبسة توفر للمتسلقين السلم الذي يرفعهم على أكتاف المخلصين، حيث يفوز المزاحمون للوقوف في الصف الأول، وهم مجرد انتهازيين غير أكفاء لتحمل المسؤولية، وإنما حشرهم قرار التكليف بمسؤولية ليست في مستوى قدراتهم الخُلقية ولا الأخلاقية، ولا الكفاءة المهنية، ولا حتى خلفياتهم الثقافية والعلمية، فكيف يسمح لهم بتولي كل الوظائف؟ وإنما يجب أن يختار لهم من الوظائف ما يناسب قدراتهم المهنية، إن كان ولا بد من ذلك.
إذن، على من بيدهم اتخاذ القرارات المهمة، نقول عليكم مراعاة ما وقع فيه غيرنا من مشكلات في التعيين؛ ذلك نتيجة اعتماد معيار الولاءات دون الكفاءات الوطنية المخلصة؛ لأنَّ مثل هذا التصرف سيضرُّ حتماً بالخط الذي سارت عليه النهضة العُمانية المباركة، والتي بموجبها تحقق هذا النجاح الكبير، في زمن قياسي، وبموارد مالية محدودة جدا، مقابل نهضة كبيرة بضخامة ما أنجز على أرض الواقع، ولكن إذا نحن ظللنا نقيم وزناً للمجاملات على حساب الصالح العامة، فإنه كمن يسمح وبعلم منه في تبخر ما أنجزته نهضة غالية القدر والثمار، وعظيمة البناء، وعميقة العطاء، وجليلة الأهداف، فبجرة قلم جاف يُحذف جهد كبير، يشهد له التاريخ بعظمته وقيمته.
إنَّ البناء والهدم ليسا سيان، فما يُبنى في حقب تاريخية طويلة، سيندثر بمجرد التوقف عن استمرار الصيانة والبناء، وإن عدم الحرص على جودة العمل، أيضا سيُهدر الجهود التي بُذلت من قبل، وعدم اختيار الأمناء على منجزات الأمة، يكفي لوقف التقدُّم والتطوير الذي تعودنا عليه بزخم جميل، فقد انهارت دول عظمى عبر التاريخ، وكان السبب التفريط في المبادئ والقيم، فهلَّا أعلنا انحيازنا إلى مصلحة الوطن دون غيره، وأوقفنا هدر الفرص في الحفاظ على نهج دولتنا؛ ذلك النهج الذي اختطه لنا قائدنا العظيم جلالة السلطان قابوس المفدى، الذي أفنى العمر سهراً على الرقي بهذا الوطن العزيز، إذن علينا أن نحفظ -نحن العمانيين- نهج القائد الفذ المبدع في هذا المسار القويم، ونلتزم معه بتلك الأهداف السامية، والعمل الدؤوب على مدى 46 عاماً إلى حد الآن، فنكمل خلف القائد الزحف الحميد، لنعيد لعُمان أمجادها العريقة، وذلك برفع البناء على أعمدة سابقة، فيُسهل علينا الرقي والتقدم، ذلك على عكس الذين يبنون على رمال متحركة، ليس لها من ثبات وقرار.