الأولوية للأهم..

 

 

عائشة البلوشية

رغم قساوة أو حلاوة ما يصلنا من أخبار مُختلفة عن القريب أو الغريب، ولكنَّ عجلة الزمان لا تتوقف ﻷيّ سبب كان، ولادة هنا وموت هناك، وشلالات عذبة تتدفق هنا، وحرائق غابات تنشب هناك، وإجازة تنقضي وعلم وعمل يبدأ، والحياة كلها مشاهد مختلفة قد يربط بينها حدث، فتصبح قصة ولكنها لا تحكى وتصبح سراً يموت بموت شخوصه، أو مشاهد لا تلتقي أبدًا ولكنها تصبح أخباراً تتداول، والكثير من الأمور يطرأ، فيصبح هناك المهم ولكن يأتي خطب ما فيكون هو الأهم، وهذا ليس بسبب الهاجس والهموم، ولكن لما له من تأثير مباشر على حيواتنا جميعًا في هذا الكون...

المشهد الأول: نظرات مختلفة، عيون زائغة وأخرى دامعة وتلك تلمع حماسًا، وطفلة تترجى بصوت مشوب بالشك قائلة: "ماما جلسي معي لا تخليني"، وأنامل طفل يتشبث بعباءة والدته، في محاولة يائسة لتأخذه معها إلى المنزل، جو مملوء بالطفولة والعفوية والبراءة حتى حافة كأس بواكير الصباح، وعلم يُرفرف بشموخ ينتظر حناجر الأطفال لتنشد بهمة: "يا ربنا احفظ لنا جلالة السُّلطان...."، كل أولئك يترقبون بدايات ولوجهم إلى عالم العلوم السحري، ليكتبوا ويقرأوا ويكبروا وفي داخل كل منهم حلم جميل بأن يصبح شخصية ما استودعها خياله الرحب؛ هذا هو الحال في مدارس الحلقة الأولى للتَّعليم الأساسي في سلطنتنا الحبيبة، وفي كل مكان بدأت فيه المدارس في استقبال أطفالها في الثامن والعشرين من أغسطس...

المشهد الثاني: كليلة العيد تمامًا منزل حشد الجهد وأعد العُدة وجهز الأبناء بعتاد العام، وأبناء تمر ليلتهم قد يغترفون سنة من نوم، أو كثر لا يغمض لهم جفن يترقبون أوَّل خيط أبيض للنهار الجديد، حتى يرتدون ما جهزوه من زي مدرسي، ويحملون حقائبهم وعلى مُحياهم يرتسم الترقب للقادم وابتسامات الأمل تعلو الشفاه، أمل بعام جديد يحمل بين طياته أيامًا وعلوماً تطير بهم على سجادة المعرفة إلى عام دراسي آخر، أو مرحلة تعليمية مختلفة؛ يستلمون كُتبهم الدراسية التي تمّ تجهيزها بعناية، ويسجلون جداولهم المدرسية، وفي قلوبهم يجددون الوعد بالجد والاجتهاد، فالشكر لك يا طالب العلم، والفخر بك يملأ القلوب، ﻷننا نعول على اجتهادك فأنت مُستقبل الوطن...

المشهد الثالث: معلم/ة جهَّز نفسه واستعاد بريق روحه، بعد إجازة صيفية أزاح عن كاهله خلالها تعب الوقوف الطويل، وأراح حنجرته من الإرشاد والنصح والتصحيح لثماني حصص دراسية كل يوم، أو لنقل منذ لحظة دخوله من بوابة المدرسة وحتى لحظة خلوده للنوم ليلاً، واستعد دون كلل من جديد ﻷن يغرس في نفوس طلابه معنى قول الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ١ العلق، ليثبت لطلابه أنَّ أوَّل آية نزلت على رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاءت لتوضح أنَّ أولوية العلم هي أهم ركائز الدين والدنيا، وأننا بالقراءة نرقى بعلومنا وبأرواحنا، يغرس هذا الإنسان المُتجرد من الأنانية بلا هوادة ما آمن به من أنَّ العلم الصحيح يسمو بالإنسانية إلى أعلى مراتبها، وأنَّ هذه الأمانة يُحاسب عليها المُعلم والمتعلم على حد سواء، لذا يكون التسليم والاستلام للمعرفة والعلوم كأرقى ما يجب عليه الواجب، فالمُعلم يُبدع في أداء الأمانة للأجيال والوطن، والطالب يستلمها ويُحافظ عليها لينقلها لحياته ووطنه بسلامة وإخلاص، فالشكر لكل مُعلم وأخصائي ومشرف ومساعد استودع الله هذه الأمانة في قلبه...

المشهد الرابع: إدارة مدرسة قلوبهم/ن خضراء، وعزائهم/ن قوية، جهزوا بيئة المدرسة المحفزة، واصلوا عملهم منذ الثالث والعشرين من أغسطس الجاري وحتى صباح اليوم، لينزعوا الرهبة من القلوب ويزرعوا الحب مكانها، يهدؤون الروع ويرسمون الابتسامة المطمئنة مكانها، فالشكر من القلب لكل من بذل الجهد ليجعل من مدرسته ملاذاً حبيبًا لعلوم أبنائنا، وقرب الكتاب ليصبح صديقاً لهم، وساعد المعلم في جدولة حصصه ليتمكن من إيصال المعلومة الواضحة لطلابه، ورتب أمور الحافلات وعدم اكتظاظها بالطلاب، من أجل سلامة الأرواح...

هذه أجزاء من قصة التعليم الخالدة في بلادي الغالية وفي كل بلاد العالم، وسم نشترك فيه جميعاً رغم اختلاف ألواننا وأجناسنا وبلادنا وعروقنا، إنّنا نشبه بعضنا تمامًا في إيماننا بأهمية العلم وتعليم الأجيال، حيث يختلف العالم اليوم على الكثير والمُثير من القضايا، ونستطيع القول (صحياً هذا مهم)، رغم أنّه قد أفرز العديد من التَّمزق والحروب والزلازل والبراكين والفيضانات في بعض من أجزائه، ولكن العالم بأسره حتمًا يتَّفق وبقوة على أن التعليم -والتعليم الجيد فقط- للأجيال هو سبيلنا للسلام والاستقرار والارتقاء و(هذا هو الأهم)، ويجب علينا أن نجعله أولوية عظمى إن أردنا الحفاظ على نوعنا ونقاء سريرتنا...

 

---------------------------------------------------

توقيع: "ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن اغترف نال الشرف" من روائع العشق الصوفي.