البوركيني.. والمعاملة بالمثل

 

 

د. عبدالله باحجاج

عندما تقوم الشرطة الفرنسية بإجبار امرأة على خلع ملابسها "البوركيني" على أحد شواطئ مدينة نيس جنوب فرنسا، هل يعلم الغرب -وعلى رأسهم أمريكا وفرنسا وبريطانيا- بتداعيات مثل هذه العدائية الجديدة ضد المسلمين؟ وهل يعرف المسلمون بالخلفيات التي وراء مثل هذا التصرفات؟ هنا ينبغي أن نستدعي إحدى أهم أجندة حملة المرشح الديمقراطي ترامب، الذي وعد فيها بطرد 11 مليون مهاجر مسلم من أمريكا، لو فاز في الانتخابات، وحتى لو تراجع عن هذا الوعد مستقبلا، فإن ذلك لن يُغيِّر شيئا من مسار العنصرية الجديدة ضد الاسلام التي أصبحت تجسدها الآن قوانين غربية جديدة، هل يُدرك الغرب أنَّ عنصريته سوف تولِّد عنصرية مقابلة كرد فعل طبيعي ومنطقي؟ وقضية إجبار المراة المسلمة على خلع ملابسها بالقوة، وميدانيا، أنموذجا.

مهما كان موقفنا من مسألة "البوركيني" الذي يعرف كذلك بزي البحر الإسلامي للنساء، وهل ينبغي أن نطلق عليه الصفة الاسلامية؟ وتساؤل آخر مهم جدا؛ وهو: هل ينبغي للمرأة المسلمة أن تكون في بيئة لا تقيم وزنا لستر العورات أو حفظ الكرامات؟ إلا أنَّ الغرب يفوت على نفسه فرصة التعايش الاختياري بين الثقافات رغم تناقضاتها الصارخة؛ فوجود نساء مسلمات بزي البحر المحتشم في مكان مختلط للجنسين، وهم شبه عراة، هو تحول في المفاهيم والسلوكيات، وكان ينبغي على الغرب قبوله لمصلحته، بدلا من محاربته، لو كان ذكيا، كيف؟ لأن "البوركيني" يقدَّم هنا كمفهوم جديد للتعايش رغم وجود مخالفات شرعية، ورفضه، يسد أبواب اندماج المسلمين بهوياتهم في المجتمع الغربي، وفي هذا يقع الغرب في حالة غباء فكري جديد؛ لأنه لم ينظر لهذا التطور بل التحول من منظور تعايش الهويات في مكان واحد أو الحق الإنساني المشترك رغم تعارض الأيديولوجيات؛ فهل بذلك يعتقد الغرب أن المسلمين سيتركون قيمهم ويذوبون في الحريات الغربية؟ بل العكس سيدفع بهم إلى التشدد والتطرف، وإلا: فماذا تتوقعون أن يترتب على إجبار مسلمة على خلع ملابسها، وكشف عورتها في عين المكان الذي يعج بالناس ومن ثم تحرير مخالفة مالية عليها؟ إنَّهم بذلك يرسخون العداء ويمددونه إلى فئة المعتدلين أو المتحررين من المسلمين، كما أننا لو نظرنا لهذه القصة من منظور آخر، فسوف نجد فيها كذلك أبعادا سياسية وثيولوجية-دينية، وكلها تحمل مضمونًا واحدة، وهو تحوُّل الغرب من العلمانية التي فصل الدين عن الدولة، وترى في التدين صلة روحية محضة بين الإنسان وخالقه، إلى العنصرية ضد الإسلام ومن منظور ديني، وتقود فرنسا الآن هذا المشروع العدائي بصورة جنونية؛ للضغط على مسلميها للتخلي عن دينهم وقيمهم الإسلامية، أو طردهم إلى بلدانهم، وقد أصدرت قانونا عنصريا جديدا يعكس لنا هذا التوجه بصورة لا لبس فيها تماما، وإذا ما أردنا الاستدلال بأدلة أخرى، فينبغي أن نستدعي هنا الخطة التي وضعها حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليمين الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، ورئيس بلدية مدينة "فينيل" جنوب فرنسا، وهى تقضي بإنهاء وجود الإسلام في فرنسا بحلول العام 2027 على أن تنطلق العملية في العام 2017، وقد كشف عن ذلك أحد قياديِّ الحزب، ويدعى روبير شاردون القيادي، ودعا في الوقت نفسه إلى ما أسماه سن قانون يقضي بحظر الإسلام في فرنسا وتجريد المسلمين فيها من الجنسية تمهيدا لطردهم من البلاد، ويراهن شاردون على فوز حزبه بانتخابات الرئاسة في أكتوبر عام 2017، عندها يقول ستنطلق عملية حظر الإسلام في فرنسا، ويلتزم ساركوزي وحزبه الصمت على هذه القنابل النووية العنصرية، بل إنَّ حزب ساركوزي وعلى لسان شاردون، يرى ضرورة أن تقوم فرنسا بتغيير دستورها، لتؤكد أنها جمهورية مسيحية، وليست دولة علمانية تتيح حرية العقيدة، ويتقاطع مع عودة التدين الى فرنسا، أصوات سياسية وثقافية متصاعد بعد أن فككت العلمانية الروابط الاجتماعية من جراء فصل الدين عن الكيان السياسي للدولة.

المفارقة الكبرى أنَّ أمريكا التي تقدِّم نفسها كراعية ومدافعة عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في العالم، والتي اتخذت من هذه الحريات والحقوق سببا في شن الحروب العسكرية لتغيير الأنظمة، هى نفسها التي أصبحت تحترق من الداخل بنيران العنصرية -أحداث تكساس أنموذجا- وقد وقفت واشنطن في حادثة البوركيني الأخيرة في فرنسا غير معنية بأهم حريتين للإنسان عامة والمرأة خاصة، هما الحرية الشخصية، والحرية الدينية، وهما من بين أهم الحريات التي أكدتها الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان العالمية، وهما الحريتان اللتان كانت إدراة أوباما والإدارات الأمريكية المتعاقبة تقيس على أثرهما مدى تقدم الدول بما فيها دول العالم الثالث في مجال حقوق وحريات والإنسان، وبسببهما كانت تضغط على الأنظمة بشعوبها، فكيف تقف صامتة بل مُشجِّعة على انتهاكهما من قبل باريس؟ وهذا ما تجلى لنا من موقفها من "البوركيني"، فلم تفعل إدارة أوباما سوى أن نصحت رعاياها بالالتزام بالقانون الفرنسي، فلماذا لم تفعل ذلك مع رعاياها في منطقتنا العربية عامة والخليج خاصة؟ ولماذا لا تعتد بقوانيننا المقيِّدة لبعض الحريات والحقوق لدواعٍ إسلامية؟ هنا قمة التناقضات الأمريكية والغربية، وقضية "البوركيني" تكشف مجددا زيف ادعاءات الغرب فيما يخص حقوق وحريات الانسان بما فيها حقوق المرأة، وكذلك تكشف زيف مقولات التعايش الديني والتقارب بين الشعوب والأديان؛ بحيث يمكننا القول الآن، وبكل قناعة، إنها شعارات دسمة مدسوسة بسموم ضرب القيم الإسلامية في عقر دارها، وتوجهاتها الآن القضاء على الإسلام في بلدان الدول الغربية.

هل نُعاملكم بالمثل؟ فقيمكم التي تُمارسونها في بلداننا تنتهك عقديتنا الإسلامية، وتمس أمننا الاجتماعي، وتهز منظومتنا القيمية، فكيف سنقبل إذن مشاهد التعري في شواطئنا، واستفزازات شبه التعري تطال حتى المراكز التجارية أمام مرأى عيون أسرنا المحافظة، في مخالفات صريحة للنظام العام، فهل ينبغي سن قوانين تغرم ماليا المخالفين للنظام العام، وتطبيق القانون آنيًّا، عبر إلزام المرأة الغربية باللباس المحتشم على غرار واقعة "البوركيني"؟ هل نعاملكم بالمثل؟ إنَّكم تدفعون بنا إلى عنصرية مُضادة بغباء سياسي غير محسوبة عواقبه، انتبهوا أيُّها الغرب، إنكم تُحطِّمون كلَّ أبجديات التعايش بين الشعوب، وتثيرون الشعوب الإسلامية بقوانينكم وممارستكم ضد الإسلام؛ فالمعاملة بالمثل مبدأ كوني تقرونه في علاقاتكم الدولية، فلن يطبق من جانبكم فقط، فمن حقنا حماية مجتمعنا من قيمكم مثلما تفعلون أنتم ذلك داخل مجتمعاتكم، رامين بعرض الحائط كل حقوق الإنسان وحرياته، فكيف أصبحتم تكفرون الآن؟ تأكدوا أنَّ مُجتمعاتنا ستعامل مواطنيكم مثلما تعاملون مواطنينا في بلدانكم، فكل فعل له ردة فعل، وردة الفعل لم تعد صناعة الحكومات وإنما المجالس المنتخبة والنخب الوطنية المستقلة التي أصبحت تشكل الرأي العام داخل مجتمعاتها، وهذه رسالتنا لتعزيز التعايش رغم الاختلاف، وتكريس الحق الإنساني المشترك بين الشعوب؛ فهناك تهديدات خطيرة تستهدفهما وللأسف ليس من "داعش" ولا "القاعدة" فقط، وإنما كذلك من بعض الأنظمة الغربية، مع تقديرنا لبعض الدول الأوروبية؛ وعلى رأسها: كندا، التي تقوم هذه الأيام بتعزيز حق العيش المشترك لكل الهويات فوق ترابها، فهل وصلت الرسالة؟!