مدرين المكتومية
يقول مصطفى محمود: " اللحظة الصادقة هي لحظة الخلوة مع النفس، حينما يبدأ ذلك الحديث السري، وذلك الحوار الداخلي، تلك المكالمة الانفرادية حيث يصغي الواحد منا إلى نفسه دون أن يخشى أذنا أخرى تتلصص على الخط. ذلك الإفضاء والإفشاء والاعتراف والطرح الصريح من الأعماق إلى سطح الوعي في محاولة مخلصة للفهم، وهي لحظة من أثمن اللحظات. إنّ الحياة تتوقف في تلك اللحظة لتبوح بحكمتها والزمن يتوقف ليعطي ذلك الشعور المديد بالحضور حيث نحن في حضرة الحق، وحيث لا يجوز الكذب والخداع والتزييف، كما لا يجوز لحظة الموت ولحظة الحشرجة ."
ففي هذا الشهر من العام هو الوقت والزمن الذي أسرق فيه نفسي لأرحل بعيدا وأهرب بصمت لأختار صومعتي التي اختبئ فيها دون رفيق يؤنسني، سوى لابتوب صغير أسجل فيه ما يحلو لي من مذكرات وهاتف محمول عليه بعض الأرقام البسيطة لأعزاء لا يمكنني أن أنسى أن أكتب لهم كل صباح "صباح الورد، صباح الحب، صباح الشوق" وكاميرا تحمل بداخلها لقطات لشريط رحلتي السينمائي الذي سأعيد عرضه لعائلاتي ورفاق دربي.
في هذا العام كانت عزلتي في ألمانيا وبالتحديد في ميونخ أو "منشن" كما يطلق عليها العالم، بلد تجاوزتنا بمئات السنين من حيث التقدم الحضاري والتنموي، بلد يظل يدق لها القلب لهفة وشوقا للعودة إليها، بلد تجد الحب في فناجين قهوتها تدعوك بكلمات مكتوبة "forget love..Fall in coffee" تبحث فيها عن نفسك بين الجموع والناس، هناك أناس ستتكرر بالنسبة لك كموظف استقبال الفندق، وبائع على الرصيف أو متسول اعتاد أن يقتات في المكان نفسه، ولكن سيختلف كل ذلك حين تنتقل بين محطات القطار وعبر المترو وعندما تزور أماكن أخرى ولكن سيظل القاسم المشترك في كل مكان هي الأريحيّة التي تقودك للمغامرة، الأريحيّة التي تشعرك بحميمية البلد وكأنّها وطنك الآخر.
لم يكن ذلك فقط ما أحاطني بالسعادة بل المطر الذي كان رفيق رحلتي لهذا البلد، المطر الذي كان يعزف لي إيقاعات الحب، ويذكرني بشخص كان رفيقي أينما كنت وحللت وتمنيت لو كنت أتقاسم وحدتي معه كما أتقاسمها الآن تحت مظلة كبيرة خارج مقهى "Riviera" بمنطقة هاراس، ولأنني أحب البوح، سأخبرك أمرا يا رفيقي...! صدقني صحيح أنني رحلت وحيدة وكان خيارًا صعبا ولكن من حسن حظك، أتعلم لماذا؟ بكل بساطة لأنّي أحلم بالعودة سريعا لتكون أول شخص التقيه وأخبرك فيها كم اشتقت إليك وكم تمنيتك معي ولا أحكي لك عن مساءات "Munich" وضجيج الصباح في "Marienplatz" وانتظاري الطويل في المحطات جهلا مني في الوجهة التي أرغب بها، وفي يوم الأحد الذي اكتشفت فيه أنّ كل شيء متوقف حتى المطاعم مغلقة.. تعبت وانتظرت حتى وجدت أحدها لينقذني من فرط الجوع لأسد بوجباته صوت بطني المزعج.
كنت وحيدة ولكني لم أشعر بذلك، كان هناك أناس يهتمون لأمري من البعيد والقريب ويبحثون عن وسيلة ما لإسعادي، ولكسر الملل إذا ما أصابني ولكنّي في نهاية المطاف لا أكترث إلا بما أريد فلديّ من العند ما يجعلني أجازف بكل شيء حتى بحياتي وخوض التجربة والفشل فيها أشبه بنجاحي في اجتياز اختبارات السنة الأخيرة بالجامعة، مع ذلك وفوق كل ما يجول بخاطري استطعت الانتهاء من قراءة كتابين قد يأخذان مني 4 أشهر في الروتين العادي، كما أنني استطعت أن أشعر بالامتنان لكل شيء من حولي فما أنا فيه قد لا يجده غيري، وما أنا عليه يعود لله ولأناس آمنوا بي وأعطوني الثقة لأكون ما أريد وأخوض تجارب قد تصعب على غيري.
وفي نهاية المطاف هذا جزء من مزاجيتي التي لا أفرضها على غيري ولكن يبقى في كل إنسان مساحة لنفسه ومكان يهرب إليه من الآخرين، ليعيش بين عقله وقلبه دون أن يزعج أحدا أو أن يتسبب للآخرين بضرر، وليكتشف مكامن الضعف والقوة لديه ورغباته واحتياجاته ليصل في النهاية لما يريده من خلوته بنفسه.