المواطنون "الكانديديون"

 

 

د. سَيْف المعمري

المواطن "كانديد" موجود في كثير من الدول؛ سواء كانت ديمقراطية أو دكتاتورية، سواء كانت متقدمة أو نامية، سواء كانت غنية أو فقيرة، وهو موجودٌ لم يَمُت منذ أنْ جَعَله فولتير بطلاً وعنواناً لروايته في العام 1759. وخلال هذه القرون، سَعَى المواطن "كانديد" لاكتشاف درجة واقعية الدروس التي تلقَّاها على أيدي مُعلِّمه "بانجلوس"، الذي آمن بفكره ومُعتقداته التربوية عشرات الآلاف من المعلمين عبر العالم، الذين يُعلِّمون كلَّ صباح ملايين المواطنين "الكانديديين"، أنَّ هذا "العالم هو أفضل العوالم الممكنة"، وعليهم أنْ يُحسِنوا النية بالآخرين؛ لأنَّ العالم زاخرٌ بالخير والمحبَّة، يقل فيه التعصُّب وتزيد فيه مساحات التسامح، يُعطي فيه الغنيُّ الفقيرَ، ويحترم فيه الغربيُّ الشرقيَّ، ويتلو فيه الإعلام الحقيقة ولا يُزيِّفها، أو يُضلِّلها، وتعملُ الدول العظمى على النهوض بالدول الفقيرة بدلاً من أن تُدمِّرها، وأنَّ هذه الدول ترسل الخبزَ للجوعى أكثر من أن تُرسِل لهم الأسلحة ليقتلوا بعضهم بعضًا بها، يُعلِّمونهم أن يثقوا بكل واحدٍ: من السياسي إلى رجل الدين، إلى الإعلامي، إلى المعلم، وأنْ لا يقاوموا أي فعل منهم مَهْمَا بدَا عنيفاً، وأحيانا مُدمِّرا، فهم ينشدون صالحهم بذلك، عليهم أن يُفوِّضوا إدارة شؤونهم للمؤسسات، وأنْ لا يتعبوا أنفسهم بعد ذلك بالسؤال أو المتابعة لأنها أمينة عليهم تعمل على خدمتهم وتأمين الحياة الكريمة لهم، وعليهم أن يفخروا دومًا بما تقوم به، وأن يشكروها ويبجِّلوها، وإنْ انحرفتْ يومًا عن مسارها، فلا يجب أن يُوجَّه لها أية كلمات قاسية، أو أن يُوجِّهوا لها كلمات تُشكِّك فيها، أو كلمات تنال من القائمين عليها، عليهم ألا يقلقوا أو يخافوا فلا يزال ذلك التجاوز لا يُقارَن بتجاوزات تاريخية مرَّ بها غيرهم من "الكانديديين" عبر التاريخ؛ حيث هُجِّروا، وجُوِّعوا، وصُلِّبوا أفرادًا وجماعات، عليهم أن  يُقارنوا أنفسهم بما يتعرَّض له آخرون من "الكانديديين" من حولهم في هذا العالم؛ فمنهم من لا يستطيعون السفر إلى أيِّ مكان يرغبون في التوجه إليه، ومنهم من لا يستطيع الخروج في قريته آمنًا، ومنهم من لا يجدون المدارس التي كانوا يذهبون إليها كل صباح، ومنهم من لا يجدون أفرادَ العائلة الذين كانوا يجتمعون معهم كل يوم، عليهم أن يُؤمنوا رغم كل شيء بأنه هذا "هو أفضل العوالم الممكنة"، هل كان المعلِّم "بانجلوس" مُخطِئا ومُضلِّلا لـ"كانديد" بهذه المعتقدات التي زرعها فيه، ولا يزال أتباعه من المعلِّمين يحشون عقولَ ملايين الطلاب بها؟ وهل المواطنون "الكانديديون" سيصلون إلى واقع أفضل من الواقع الحالي الذي يرفضونه ويقاومونه؟

إنَّ رواية "كانديد أو المتفاءل" التي كتبها فولتير في القرن الثامن عشر، والتي صور فيها جدلية العلاقة بين الخير والشر، والتفاؤل والتشاؤم، والتي مِحْوَرُها حول "كانديد" ومُعلِّمه "بانجلوس"، لا تزال عملاً أدبيًّا وفلسفيًّا وسياسيًّا مُهمًّا في قراءة ما يجري على مختلف الساحات، وبالذات الساحتين التربوية والسياسية اللتين يكثُر فيهما الحديثُ عن القيم والخير والتفاؤل والتنمية والتعاون والديمقراطية والعطاء، بغَرَض تقديم أفضل صورة مُمكِنَة للواقع الحالي والمستقبلي، السياسي يُقدِّمها "للكانديدين" الكبار من المواطنين في مواسم الانتخابات، أو في حالات التجاوزات، أو في أوقات الأزمات. والمعلِّم يُقدِّمها للمواطنين "الكانديديين" الصغار في المدارس والجامعات؛ حيث لا يطرح عليهم أيَّ قضية من القضايا الواقعية التي تحصل حولهم، ولا يعمل على تنفيد الآراء الصحيحة من الخاطئة معهم، ولا يفسِّر لهم ما يشاهدونه في القنوات الإخبارية أو ما يسمعون به في حياتهم الاجتماعية؛ وبالتالي يجعلهم يعتقدون أنَّ كل ما يجري من حولهم هو من أجل صالحهم، وعندما يبدأون الانخراط في حياة الكبار، يكتشفون شيئا فشيئا أنَّ المعلم "بانجلوس" عزلهم عن العالم، وزَرَع في أذهانهم أوهامًا عن العالم الذي يعيشون فيه؛ وبالتالي يُغرَّر بهم في كل مكان، وفي كلِّ موقع، وتُسلب منهم أشياء يستحقونها، ويقتنعون بالتنازل عن حقوق طبيعية لهم، ويقتنعون بأنَّ التمييز هو في الواقع مساواة، والإقصاء هو عدالة، والكل يعمل من أجل راحة "المواطن كانديد" لكنه هو غير ناضج لكي يعي ذلك، وعندما ينضج سوف يدرك أنه يعيش في "أفضل العوالم الممكنة"، وإنْ وسوس له الشيطان بغير ذلك فعليه أن يتفكَّر فيما تعرَّض له مَنْ قبله ومَنْ حوله مِنَ "الكانديديين" في هذا العالم.

لقد عاش "كانديد" في قلعة بارون في وستفاليا؛ حيث خصَّص له المعلم "بانجلوس"، الذي طَلَب منه تعليمه بأنَّ كل شيء يمضي للأفضل، أي طلب منه أن يعلمه التفاؤل، وبالفعل كانت الأوضاع في القلعة تمضي كما كان يُصوِّرها المعلم "بانجلوس"، حتى تمَّ التآمر عليه باتهامه بتهمة غير أخلاقية، وطرده من القلعة حيث واجه حياة أخرى مختلفة، واكتشف عالما يضجُّ بالصراعات والحروب والقتل والمؤامرات؛ حيث تم القبض عليه من قبل شركة التوظيف البروسي، وأُجْبِر على المشاركة في معركة ضد البلغار، ثم يهرب إلى هولندا وهناك يلتقي سيدةً هربتْ من القلعة وبمعلِّمه "بانجلوس"، وحكوا له كيف تمَّ تدمير القلعة وقُتِل كاملُ من فيها من قبل البلغار، ومن هُناك أبحروا إلى لشبونة التي وجدوها مُدمَّرة بفعل عاصفة عندما وصلوا إليها، وأثناء وجودهم في لشبونة تمَّ القبض عليهم من قبل محاكم التفتيش البرتغالية؛ حيث قرَّروا إعدامهم، لكنَّهم هربوا، ومضى كانديد يهرب من مكان لآخر، ويخرج في مصيبة ليدخل في أخرى، ويكتشف عوالم لا تُحرِّكها الفطرة الإنسانية السليمة، ولا تحرسها الأمنيات الجميلة، عوالم يملؤها النفاق والكذب والشر والاستغلال؛ حيث القوي يتسلَّط على الضعيف، والغني يبني ثروته على أكتاف المعدومين والفقراء، وحيث المال يُوظَّف لإفساد الحياة الإنسانية، ويزاد "كانديد" خيبة أمل، ويتمنى ألا يكتشف أشياء أخرى، ومُعلِّمه "بانجلوس" رَغْم ذلك يُصرُّ على إعطاء العالم من حوله صورةً زاهيةً وبرَّاقة، يُصرُّ على أنْ يُحيطه بإطار ذهبي، ويُرصِّعه بالألماس، ويُحاول بعد كل ما شاهده "كانديد" أن يُوهِمه بأنَّه لا يرى العالم بشكل جيد، وإلا لما شَعَر بالإحباط وخيبة الأمل؛ لأنَّ هذا هو أفضل عالم يجب أن يعيش فيه، وأن يحتفل كل يوم ببقائه حيًّا رغم كل ما تعرَّض له.

لم تكُن مسيرة المواطن "كانديد" تختلف عن مسيرة غيره من المواطنين "الكانديديين" في كثير من بقاع العالم، الذين يكتشفون عالمًا غير الذي حدَّثهم عنه مُعلِّمِيهم "البانجلاسيين"، عالم لا يستطيعون أن يُقاوموه إلا باتباع نصيحة الحكيم التركي الذي قابله "كانديد" عندما وَصَل إلى القسطنطينية، حيث قال له ((لا يمكن مواجهة الواقع إلا بأن ينصرف جميع المواطنين "الكانديديين" إلى "زراعة حدائقهم الخاصة"))، أي الانصراف إلى الاهتمام بشؤونهم، ونسيان ما يجري في المحيط من حولهم، وتَفْقِد المجتمعات صفتَها الاجتماعية، ويُصبح الانتماء إلى الصالح الخاص بحسب نصيحة هذا الحكيم هو وسيلة لتقليل الألم، وتوفير بصيص من الأمل والتفاؤل لقطاع كبير من "الكانديديين" في العالم، الذين عليهم أن يُدركوا أنَّه رغم كل ما يشاهدونه من جرائم وقتل وتدمير وإرهاب، وانهيار دول، وصراعات داخلية وخارجية بين الدول، وتعسُّف وتسلُّط، واستغلال، واحتكار، إلا أنَّهم يعيشون في أفضل العوامل الممكنة، وأنهم ربما موعودون بزمن لا تصبح فيه حياتهم ممكنة.

saifn@squ.edu.om