في مسألة الحُريَّة وحدودها

 

 

عبدالله العليَّان

تُمثِّل قيمُ الحُريَّة منذ فجر التاريخ حتى الآن، قيمةً كبيرةً في الوجدان الإنساني؛ بما تُمثِّله من رُؤى، تختزل معاني الانطلاق والإبداع، وتفتح الباب واسعاً لكلمة الحق والصدق، وإفساح المجال لحُريَّة التعبير، التي تجعل الحياة الاجتماعية حافلة بالطرح القويم، والنقاش الحر الذي يُسهم في إمداد المجتمعات بالأفكار النيًرة، والنقد البناء الحصيف، والجدلية الواعية؛ بما يُثرِي النقاشات والحوارات التي تُفرز البناء الذي تنشده الأمم رائعاً وقويًّا. وقد اعُتبرت الحُريَّة في كثير من الفلسفات ليست حقًّا فقط، بل واجبٌ لتتحقَّق الحياة الكريمة، وتتعزَّز كلمة الصِّدق والحق، بما لا يُخرج هذه القيمة الكبيرة عن المصداقية، وعن حرية الآخرين وحقوقهم وكرامتهم، فالحُريَّة -كما يقال- تنتهي عند حدود حرية الآخرين، والحُريَّة -كما يقول د. زكي نجيب محمود- مكسوبة للإنسان، مرتفعة به عن سائر الأحياء إلى فلك أرفع وأسمى، وهي حرية مرهونة بفطرته البشرية أولا، وبما هو في مقدور تلك الفطرة من "علم" بطبائع الأشياء، ولقد ألفنا جميعاً ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبي وحده، دون جانبها الإيجابي الذي بفضله تبنى الحضارات وتقام الثقافات، وجانبها السلبي هو المرحلة الأولى التي تفك فيها القيود، ويصبح الإنسان بعد ذلك "حرًّا" في أن ينطلق إلى حيث شاء، وها هنا يأتي الجانب الإيجابي من الحُريَّة، فإلى أين ينطلق، وكيف ينطلق، وعند هذه النقطة تأتي أهمية المعرفة بطبائع الأشياء، وعندما أمرنا الله في كتابه العزيز أن نضرب في مناكب الأرض، وأن نتفكَّر في خلق السموات والأرض، كان ذلك التوجيه الإلهي بمثابة إرشادنا إلى الشرط الأساسي الذي بغيره لا تحقق للإنسان حريته بمعناها الإيجابي البناء، وتلك الحُريَّة -بمفهومها السياسي والإيجابي- هي بدورها المقوِّم الأساسي لجوهر الإنسان وكرامته، وهل تكون مسؤولية خلقية بغيرها، أو يكون الإنسان بدونها حضارة تقام بعلومها وفنونها ونظمها وسائر عناصرها". والإشكالية أن الحُريَّة في المدارس الفلسفية والفكرية تختلف في مفاهيمها ورؤيتها، فالحُريَّة عند الاتجاهات الشمولية والنظم الاشتراكية، أن يحصل الفرد على حقوقه الاقتصادية، في ظل الملكية العامة للدولة، وهذا قمة الحُريَّة والكرامة الإنسانية، فالفرد مقيد بما تريده هذه النظم، لكن ليس له حُريَّة في النقد إلا بما يُقرِّره الحزب ويرتضيه، أما أن القضاء نهج الرأسماليين، فهو ضمن فلسفات النظم الاشتراكية التي تجعل النظام المخالف له رجعيًّا وبرجوازيًّا، بينما عند النظم الرأسمالية والليبرالية، فحرية الاقتصاد -أو كما يسميها آدم "ميكانيكية السوق"- هي التي تقود حركة السوق الاقتصادية، وليس للدولة أن تتدخل إلا بما تقتضيه مصلحة السوق وبما يحقق الحُريَّة الاقتصادية، إلى جانب الحريات الأخرى في النظم الليبرالية التي تعتبر سمة بارزة في الغرب الرأسمالي، وهو ما استطاع أن يحقق نجاحا في الجوانب الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، صحيح أن الرأسمالية كانت متوحشة ومتسلطة في بدايتها، والسبب الأول هو الحُريَّة التي هذَّبت هذا الجشع والظلم وحصلت الكثير من التعديلات في الرأسمالية، أو كما تسمى الليبرالية الجديدة، التي جعلت حرية الفرد طريقاً واسعاً للنجاح، على الرغم من التجاوزات الكبيرة للحرية الشخصية التي يراها البعض وصلت لحدها الأقصى من الانفلات، بينما غياب الحُريَّة في النظم الشيوعية، أثر سلباً على الفرد، وعلى المجتمع، وأصبح الفرد مسحوقا ومقيداً من حرية النقد، ومن الحُريَّة العامة في النشاط الأخر، الذي يجعله إنساناً من القدرات والابتكارات...إلخ، ومن حقه أن ينطلق، وأن يتطلع إلى حرية التملك، وأن تكون له شخصية مستقلة في ذاته، وهو ما جعل هذه النظم تتساقط في هذا المعسكر، بينما الرأسمالية في الغرب استطاعت أن تنأى بنفسها عن الظلم، وعن التوحش الاقتصادي كما أشرنا؛ فمن خلال الحريات والنقابات، تغير وضع العامل، وأصبح العامل في الغرب الرأسمالي له من الحقوق يفوق العامل في النظم الاشتراكية، وتغيَّرت الرؤية الرأسمالية، وجدَّدت نفسها من الشوائب والنواقص والعيوب، وأصبح الكثير من النظم الرأسمالية قريبة من الرؤية الاجتماعية الاشتراكية، وحافظت على وجهها في الحُريَّة والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، فحققت الليبرالية بحق انطلاقة نهضوية كبيرة لا تقاس بما في دول المعسكر الشرقي آنذاك حتى انهارت في الثمانينات من القرن الماضي، والدول التي أعطيت مساحة جيدة للحرية والتعددية نجحت أخيرا من كبوتها الاقتصادية؛ ومنها: الهند وكوريا والبرازيل، وتركيا، وماليزيا...وغيرها من الدول، لكن في ظل الاستبداد والشمولية وقمع الحريات تتأخر الدول وتتراجع، وربما يهتز استقرارها، فالحُريَّة المسؤولة، هي الضامن الصحيح للدول ومقوماتها، فالنقد ونقد النقد يظهران الرؤى الصحيحة وتتراجع الرؤى الهزيلة؛ ولذلك فإن حرية التعبير مهمَّة، بما لا يُسيء إلى الآخرين، أو يسعى لهدم وتدمير وخراب، لكنها حاجة وضرورة للتقويم والإصلاح، خاصة حرية الصحافة في النقد، وإبداء الآراء التي تهدف لإعلاء المصلحة العامة، وإعلاء نهضة الأمة وتقدُّمها، ومُحاربة مظاهر الفساد واستغلال النفوذ والمحاباة، بما تنظمه القوانين والنظم السارية.