"أعطني حريتي .. أطلق يديا"

 

د. عبد الله عبد الرزاق باحجاج

تفتح قضية مهرجان الألوان- التي تناولناها في مقال يوم الإثنين الماضي المعنون باسم "رينبو خريف صلالة"- باب التفكير واسعاً للتأمل الشمولي في التطورات والمُستجدات التي طرأت على شأننا الداخلي، ومدى ملاءمتها لمنظومة قيمنا وأخلاقنا وثوابتنا السياسية؟

كما تطرح مجموعة استفسارات حول الإدارة السياسية لعملية الانفتاح الذي تمليه حتمية التطور ومستلزمات التكييف والتَّكيف مع التَّحديات والإكراهات الراهنة؟ يقف وراء توسيع التفكير وشموليته قصور الوعي في فهم وإدراك خلفيات المهرجان، وهذه ليست المرة الأولى، وكذلك بعض المواقف السلبية من قضية المهرجان– رغم محدوديتها جدًا- فهي تسلم بإقامة المهرجان للمقتضيات السياحة، وتعتبر ذلك ضريبة يجب أن ندفعها، وهي بذلك تثير قضية لابد أن نتوقف عندها، وهي عدم التفرقة بين الانفتاح والانفلات، فغرق وعيها في الانفلات كحتمية للتطور، ولم تر الخيط الرفيع الفاصل بين الانفتاح والانفلات، كما لم تنفذ رؤيتها للخلفيات والأبعاد الخارجية.

فكيف ينبغي أن ترى هذا الخيط الفاصل؟ الرؤية يمكن أن تكون من منظورين، الأول فكري، هي عملية إدراكية، ومسألة استشرافية مسبقة، يمكن أن يكتشفها الوعي بسهولة إذا اتخذ من مرجعية حكمه العادات والتقاليد الأصيلة وثوابت الدولة المجمع عليها، والثاني تطبيقي، فالصور الناجمة عن أية تطورات جديدة هي التي ستجعلنا نحكم عليها، انفتاح أم انفلات؟ فصور الانفلات تكون واضحة وضوح الشمس، فمثلا اختلاط الجنسين في حفل غنائي راقص بخلفيته الآيديولوجية التي أشرنا إليها في ذلك المقال، هل هو انفتاح أم انفلات؟ من يعتبره انفتاحًا، فهو يعتقد أنّ الانفتاح هو التَّحرر من نظمنا الاجتماعية، وسواء كان انفتاحًا أو انفلاتًا، هل هناك حتمية له؟ هناك مناطق سياحية عربية لم يكن لديها الهاجس بتلك الثنائية المتعارضة في بدايات انفتاحها، فغاب عنها عدم رؤية ذلك الخليط الرفيع الذي يفصل بين الانفتاح والانفلات، فرأت في فتح حرية العلاقة بين الجنسين من متطلبات الانفتاح السياحي، مما أبرز للسطح ظاهرة تجارة الجسد كشبكات منظمة تستهدف الشباب، ومعها انتشرت الأمراض في تلك المجتمعات، وحطمت القيم والأخلاق، وأغرقت شبابها في فساد متعدد الأشكال، فهل تمثل هذه الظاهرة وتداعياتها انفتاحًا أم انفلاتا؟ فكيف نرى شمولية واقعنا الراهن بعد هذا التأصيل الفكري الذي هدفنا من خلاله لتحرير الوعي من معوقاته؟ هنا لابد أن نتوقف قليلاً عند رؤية عاهل البلاد للانفتاح، وكيف تم تطبيقه؟ كما يعلم الكل، فقد تبنى -حفظه الله- مقاربة الانفتاح المسؤول المتدرج الذي لم يمس أساسيات هويتنا وثوابتنا، وهو انفتاح يُعبر عن رؤية جديدة ومتطورة ومتسارعة لمجتمع لا يُمكن أن يظل بمعزل عما يدور حوله من حراك مُتسارع، والنتيجة كانت عدم بروز إشكالية بين عنصري المجتمع – الرجل والمرأة – ولا إشكالية دينية ولا مذهبية، فأنتج لنا مجتمعًا محافظًا ومتعايشاً مع التطور الحتمي الذي تمليه ظروف تطور البلاد، غير أننا لابد أن نتوقف عند يناير 2016، فمنذ هذه الحقبة الزمنية، رصدنا تنامي انفلات كان محدودا جدا، ومنحصرا في نطاق ضيق، باستثناء المُناسبات السياحية، وهو ظهور تجارة الجسد المنظمة، والترويج لهذه البضاعة حتى في الشوارع، ويكون الشباب أكثر الفئات استهدافًا ووقوعًا، والخطورة فيها أنّها بدأت تنتشر في بعض المُحافظات، والبعض يتحدَّث عن عصابة إقليمية تقف وراء هذا التنامي، حيث يتم تدوير مؤمسات في دول الجوار بحجة تجديد التأشيرة، وبعد انقضاء ثلاثة أشهر ينتقلن إلى دول أخرى، فهل هذا انفتاح سياحي أم انفلات وانحراف قيمي وأخلاقي؟ وكذلك يُمكن للمتابع أن يرصد ظاهرة العاملات الأجنبيات اللاتي يقفن على بوابة المطاعم بملابس مُثيرة للجدل ومعول هدم للأخلاق، يقفن بحجة جذب الزبون، وهذه الظاهرة محدودة جدًا الآن، عدداً ومكانًا، فهل تشكل انفتاحاً أم انفلاتًا؟ ولو تركناها دون ردع أو رادع، فقد تتمدد وتنتشر وتتعمق، وتستفحل الأمراض الخطيرة الناجمة عنها، ونصل – لا قدر الله – إلى ما وصلت إليه الدول الأخرى من صعوبة محاربة هذه الظواهر، ومن رفع فاتورة الصحة على مواطنيها، كما رصدنا كذلك تنامي ظاهرة الملابس الغريبة والتقليعات بين شبابنا، ولدينا قلق مرتفع من انتشارها، ومن تحولها إلى طريقة تفكير، وقلقنا كذلك من مستقبل تعدد الهويات داخل المجتمع بعد أن أصبحت سلوكاً يمكن متابعته في المراكز التجارية والأماكن العامة، فجيل اليوم من الشباب هم آباء المستقبل، فكيف نُحافظ على جيل المستقبل وعلى موروثنا الاجتماعي من مثل تلك المخاطر؟.

وهنا نصل إلى الأهم، وهو هل يمكن أن نعيش مرحلة الانفتاح الآن دون أن يكون هناك نظام أو قانون مستقل يحميه ويضبطه وفريق متخصص ومتفرغ يحرص على تطبيقه؟ ولماذا الآن؟ لأننا في عصر مُتغير ومتسارع لا يقبل الجمود، ويخترق الحدود، وحاجتنا إليه الآن أكبر مما سبق، فنحن بحاجة إليه سياحيا واستثماريا وتجارياً، مع ما يستلزم ذلك من حرية انتقال الأفكار والأشخاص والبضائع لتحقيق مبادرة التنوع الاقتصادي، عصر تختلط فيه الأجندة الأجنبية الخاصة مع الاقتصاد والسياحة والثقافة، وتنتقل معها بين الجغرافيات بصورة علنية أو مبطنة، فكيف نضمن المواجهة في ظل حمولات المرحلة الراهنة؟ تساؤل عام، وعموميته تستلزم مراجعة كل التشريعات في بلادنا، ومن ثم تقييم مدى صلاحية النخب الحكومية والعمومية للمرحلة المقبلة التي بدأت إرهاصاتها تظهر للسطح بقوة، لكنني سأركز هنا على أهمية إصدار قانون جديد للنظام العام مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل محافظة من محافظات البلاد، بل إنّ الحاجة تستدعي أن يكون لكل محافظة أو لبعض المحافظات قانون خاص بها للنظام العام، لخصوصيتها التي قد تتميز بها جماعاتها المحلية، ونقترح أن تأخذ زمام المبادرة محافظة ظفار، كونها تدرك الآن أهمية هذا القانون لضمان عدم تحول انفتاحها المسؤول والمتدرج إلى انفلات أو انحراف في القيم والأخلاق، ويعرف النظام العام بأنه مجموعة متجانسة من المصالح الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع سواء تعلق الأمر بالمصالح الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأخلاقية في المجتمع، فهل سيقدم أعضاء ظفار في الشورى والبلدي إلى المبادرة بهذا القانون؟ فهناك شباب هم الآن على مفترق الانفلات .. وآخرون في مسيرة الانقياد، كما أنّ هناك جهات داخلية وخارجية قد تستغل انفتاحنا السياحي بدس السم في العسل كما حدث لمهرجان الألوان، فلم ير شبابنا وبعض مثقفينا فيها سوى جانبها الترفيهي رغم شعارها العالمي الذي تتخذ منه حركة عالمية ضد القيم والأخلاق شعارًا لها .. إلخ. فلا يمكن أن نعطي للأفراد والمؤسسات حريتها المطلقة، ونطلق يدها في ممارساتها، فمجتمعنا محافظ، وانفتاحه لا يعني انفلاته عن قيمه وثوابته، لذلك المجتمع في أمس الحاجة إلى قانون مستقل وجديد للنظام العام لضبط إيقاع التطورات وللحيلولة دون تحقيق الأجندات، وللمحافظة على القيم والأخلاق الثابتة، ومفهوم النظام العام ليس ثابتاً وإنما متغير، لذلك ينبغي أن تراجع القوانين دوريًا ـ ففعلا مجتمعنا مستهدف قديما وحاضرا ومستقبلا من الداخل والخارج، فالتشريع والرقابة المجتمعية والحكومية رهاناتنا لضبط إيقاع انفتاحنا حتى لا يتحول إلى انفلات يهدم موروثنا الاجتماعي ومكتسبات نهضتنا المباركة.