تصويب نقاشات اللحظة الوطنية الراهنة

 

 

د. عبدالله باحجاج

الوطنُ أمانة فعلا، ويزداد الآن ثقلها، في ظلِّ احتقانات الظرفية الراهنة، وسخونة التجاذبات بين ديناميات/قوى جديدة برزتْ فجأة فوق السطح دون سابق إنذار، وأخرى قديمة تتقاطع مع الديناميات الجديدة في قضية تشغل الرأي العام الداخلي، ولها تداعيات خارجية، ربما تنتظرها قوى داخلية وخارجية للتدخل في شأننا الداخلي، وهذه الاحتقانات قد تمكِّنها الآن من ذلك، إذا لم نعمل على إدارة الظرفية الراهنة بالتعقُّل والحكمة، وليس بلغة الانتقام. ومهما يكن، فإنَّ إكراهات اللحظة الوطنية الراهنة تحتِّم تجنب صناعة أعداء، وإنما العمل على عودة الروح الوطنية من مُنطلق قبول الاختلاف والخلاف من أجل عُمان، وحسمه قضائيا فقط؛ فالوطن أمانة، ومهما أخطأنا كأفراد، أو غُمِّي علينا نحن الأفراد؛ فحمل الأمانة لن يسقط عن كاهلنا ولا عن كاهلهم؛ فالوطن أمانة سنُسأل عنها يوم القيامة.

وعندما يقفُ الخارج مُستغرِبًا، بل حائرا، من حالة الأمن والاستقرار في بلادنا رغم أنها تقع في محيط مُلتهب، يفجِّر الابن أباه، وتُهدَّم مدنٌ وقرى فوق ساكنيها، وتُستباح الدماء البريئة على خلفية نزاع مذهبي له آلاف السنين، لابد هنا أن نُعلي من شأن الأمانة، ونحملها الكل، الخاطئ والمخطي ومعهما الرأي العام، هل ينبغي هنا مخاطبة العقل المقارن للزوم الإقناع، إذن، انظروا لدول محيطنا الإقليمي، كيف كانت، وكيف تحوَّلت؟ أم نخاطب ضميرها الحي بغية التوغل في مكنوناته، أم مخاطبة إخلاصها ووفائها لتراب الوطن؟ علينا أن نتوجَّه إليها من خلال كل تلك الجوارح والحواس، ونقول لهم صراحة إنَّ ديمومة أمن واستقرار بلادنا في أفعالنا وردود أفعالنا، وأخطرها يكمُن فيما قد تَصْغَى إليه الحواس وتعمل به الجوارح، خاصة ترويج الفتن ونشر الشائعات المغرضة، عندها سندخُل في أتون منحنى غير محسوب النتائج، بلا وعي أو بوعي المنافع الشخصية أو بدافع الشعور بالظلم من بعض السلطويين أو العكس؛ فلو سلَّمنا فعلنا وردة فعلنا للعواطف أو لمنطق فعل المظلوم وردة فعل الظالم، فإنه سيحمل معه إثارة الرأي العام؛ مما سيصنع لنا حالة إغراق مجتمعية غير واعين بتداعياتها في ظل الظرفية الراهنة التي تمرُّ بها بلادنا، وهى ظرفية حاملة بحمولات ثقيلة جدا؛ أبرزها: تراكم الباحثين عن عمل ووقف ترقيات الموظفين والآلام الاجتماعية الناجمة عن السياسة المالية في ظل الأزمة النفطية...إلخ؛ فشحن النفسيات الاجتماعية بقضية التجاذبات الراهنة في ظل تلك الإكراهات والتحديات، نستشرف تداعياته مُسبقا. ومن هنا، نعتبر الوطن أمانة تقع على عاتق الكل دون أن تُسقِط الحقوق، حقوق المتضررين في قضية التجاذبات الراهنة، لكن كيف ينبغي أن نحسمها؟ طبعا عن طريق القضاء فقط، وهنا لنا رسالة عاجلة في قضية تصويب الرأي والرأي الآخر، وهي أننا ينبغي أن نفرِّق بين مسألتين جوهرتين في هذه القضية؛ هما: المؤسسة القضائية كمؤسسة دستورية مُحصَّنة، وأداء الفاعلين فيها الخاضع للرقابة وللمساءلة؛ فالحفاظ على هيبة المؤسسات الدستورية خط أحمر، ويجب أن لا يُمس، والطعن في الأداء الوظيفي لفاعليها حق مشروع للكل، ولا يمكن تجزئته ولا انتقائه، ولا تأسيسه؛ لأنهم بشر يصيبون وقد يخطئون؛ فدولة الحق والعدالة تسلم بهذه التفرقة الفاصلة التي تكرس الثابت فيها وتعزِّز المتغير المستمر؛ فالثبات هنا المؤسسات الدستورية، والمتغير فيها الأفراد، وهذه جدلية نُعلي من شأنها، للقول بفصيح العبارة إنَّ قضية التجاذبات الراهنة وتطوراتها هى قضية رأي عام، وتحريك الدعوى العمومية قضية وطنية، ولابد للقضاء الفصل فيها بوسائله المستقلة والنزيهة، والمعلنة، وكنا نتمنى أن نسمع في بيان الحكومة ما يُطمئِن الرأي العام بأنَّ القضية قد أصبحت قضية العدالة، وأنها ستحظى بمحاكمة عادلة وشفافة، وليس لدينا شك في ذلك، لكنَّ التصريح بها في البيان يُعدُّ رسالة توضيحية لها إيجابيات كثيرة داخليا وخارجيا، كما كنا نتمنى أن يصدُر البيان من المجلس الأعلى للقضاء؛ كون السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية، ربما يكون هناك ثغرة إجرائية، فهل تثار هنا إشكالية دستورية البيان الحكومي أم وراؤه تكييف قانوني من منظور الرئاسة الجامعة لكل السلطات؟! وحتى في حالة هذه الأخيرة، فإن التغليب هنا يكون للمؤسسات الدستورية المعنية مباشرة بالقضية المثارة، وهنا نجدها في المجلس الأعلى للقضاء.

وفي إطار الدستورية ودولة القانون، ينبغي كذلك التعاطي مع التصرفات غير القانونية من دواعي تصويب الفعل أيًّا كان وراؤه فرد أو جماعة أو فاعلون معنويون؛ فحلول كل مشكلاتنا الراهنة والمستقبلية سنجدها في الالتزام بتطبيق التشريعات في البلاد خاصة الآن.. لماذا؟ لانكشاف الماضي، وقيادة الديناميات مشهدنا السياسي الراهن، ونقصد بالديناميات هنا القوى المحرِّكة لواقعنا السياسي الداخلي؛ فمنذ العام 2015 وحتى الآن برزتْ ديناميات جديدة كما عادت للسطح ديناميات قديمة، وكلاهما أصبح يشغل مشهدنا السياسي، ويحرِّك الرأي العام. واللافت فيها بروز ديناميات سلطوية تجاهر بخلافات جوهرية مع نظيراتها السلطوية وتتخذ من الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي ساحة لها؛ فهل ينبغي أن يكون حسم خلافاتها القضاء أم السياسة؟ من الدواعي الوطنية بحمولتها الثقيلة أن تكون رهاناتنا على المحاكمات العادلة والنزيهة؛ لأنَّ كُبرى الإكراهات ستأتي من قِبَل الديناميات، وقد يتقاطع معها الخارج، فكيف الحال بديناميات تتدَّعي امتلاكها الأدلة، فهل ترمي بها البحر أم تحاجج بها الخصوم؟! والخصوم هنا يندرجون ضمن المتغيرات أم الثوابت؟ فالوطن أمانة، وحمل الأمانة وديمومتها لن يكون عبر إسقاط الحقوق، وإنما تأمينها عبر القضاء الذي أراد له عاهل البلاد -حفظه الله- أن يكون مستقلا وعادلا ونزيها، ووسيلة لحل الخلافات، وهذا هو المجمع عليها سياسيًّا واجتماعيًّا، وهذا ما ينتظر العمل به في كل القضايا الراهنة والمستقبلية. فالوطن أمانة، والأمانة ليست بالتمني، وإنما بالعمل الوطني من خلال المؤسسات الدستورية بمساواة تامة بين المتخاصمين.

الأكثر قراءة