معاوية الرواحي
ليس من الصعب على الإطلاق أن يُحلل أيُّ مُتابع عابر الحالة المُحزنة التي تعيشها الكتابة العُمانية في الأعوام الأخيرة. وعلى الرغم من أنّ الحالات الفردية قد استفادت من فترة الشلل هذه وتحولت إلى الكتابة الشخصية وإلى توثيق الأفكار في كُتب ورقية هطلت بغزارة في معارض الكتاب، إلا أنّ الكتابة عن الشؤون العُمانية قد عاشت وما تزال تعيش حالة من حالات الركود الحاد في الأعوام الخمسة الأخيرة.
الكتابة عن الشؤون العُمانية ليست فقط كتابة عن الشؤون السياسية كما يفهم البعض، ولكنها أيضاً الكتابة في الشؤون الثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية قبل أن تكون كتابة عن الحالة الشعبية الوطنية العامّة، مُمارسة العمل الكتابي متوسعة دائمًا ويقوم بهذا الدور الجليل فريق كبير من الكُتَّاب العُمانيين، أقصد [كان يقوم به] فريق متطوع من الكتاب العُمانيين في فترة من فترات الحرية الرائعة عاشها الكُتاب العُمانيون ابتداءً من عام 2004، الذي بدأت فيه حركة الكتابة الجديدة بالتبلور إلى أن وصلنا إلى عام 2010م، الذي كان آخر عهد الكتابة العُمانية بتلك النافذة الجديدة من المجال المفتوح، ومن الإمكانات الجديدة للعصر الذي حمل وسائطه التقنية والإلكترونية التي وصلت إلى التأثير على الإعلام الرسمي التقليدي لتغير الكثير فيه.
كم كان زمنًا جميلاً، كانت الأشياء واضحة، حركة محمومة من الكتابة ومن الأسماء الجديدة التي نالت شعبية هائلة ومن الأسماء القديمة التي خرجت من الصمت والكسل لتمارس أيضًا [حقها الكوني] في الكتابة عن الشؤون الذهنية والفكرية والثقافية والسياسية والدينية والوطنية والاقتصادية والفنية. فجأة، أصبح المُتابع يحتاج إلى عشر ساعات ليتتبع هذا الانطلاق الحُر في سماء الكتابة، والذي جعلنا نشعر أنَّ الأشياء بخير، ونعم كان كل شيء بخير، كان كل شيء يسير إلى قادم أجمل، كان ذلك حتى حلَّ علينا كابوسٌ مُخيف في البلاد العربية لم يحمل معه إلا الخيبة والموت والدماء. أقصد بذلك عام الشؤم الشهير باسم الربيع العربي.
كانت الدولة العُمانية وقتها مُمثلة في وزير الديوان العُماني قد بدأت في درب تصالح ووئام مع حركة الكتابة في عُمان، وعبر جلسات وزير الديوان السنوية دخل المُثقف العُماني صلحاً كبيرًا ومهماً مع الدولة العُمانية، وعلى الرغم من أنَّ حركة النقد الوطني كانت حادة وكانت في بعض الأحيان تثقل على الحكومة إلا أنّ ذلك الاحتدام لم يصل إلى الأحداث المؤسفة التي حدثت لاحقًا.
شهد المُثقف العُماني حالة نادرة من حالات الاعتراف بجهوده المضنية ودوره الوطني النبيل، في الوقت نفسه وبينما كان الحراك الإلكتروني في أقوى حالاته تفاعل الإعلام المؤسسي ــ متأخرًا ــ مع هذا الحراك الحر، وتدافع الأفكار، والنقاشات والجدالات، وسقف الحرية الذي ارتفع إلى أقصى أقاصيه الممكنه وقتذاك. ولأنَّ عُمان دولة تختلف عن جميع الدول العربية، حملت اختلافها معها في موجة الحرية التي كانت تتجلى أكثر وأكثر، كُتاب جدد بعقول [نظيفة] غير خائفة تُمارس الكتابة بشكل واعٍ ومسؤول، كتاٌب يتركون التعلل بالخوف يتوقفون عن الأعذار ويعودون للكتابة لقرائهم المخلصين، تنوعات كثيرة في سماء الكتابة، شهدت أيضًا دخول الكاتبة العُمانية بقوّة لتزاحم الوسط الثقافي الذكوريّ، حالة مذهلة من المسؤولية الجمعية الواعية لم تخل من بعض المُنغصات، لم تخل من بعض الأشياء المزعجة لكل الأطراف، البعض خرج قليلاً عن السرب وانتقد بشدة المؤسسة الدينية، والبعض انتقد المؤسسة الرسمية، والبعض انتقد المؤسسة الثقافية، ولكن الحلم كان سيد الموقف، جيل جديد مُتحمس من الشباب وضع وقته وجهده ووضع الوطن نصب عينيه، لن يكون من المنطقي أن أقول إنّ هذا شمل الجميع في تلك الفترة ولكنه شمل الأغلبية الكبرى من الكُتاب في عمان. كان كل شيء أجمل من أن يستمر، إنّ الحياة لسبب ما ليست كريمة دائمة هذا الكرم.
احتدمت الأشياء في العام المشؤوم.. أدهش الكاتب العُماني الجميع في تلك المرحلة، البعض أدهشك بوطنيته واستعداده المخلص للحفاظ على وطنه من الكوارث، بينما انشغل البعض بتغيير مسميات الأشياء البعض خدع نفسه، والبعض خدع غيره والبعض خدعه غيره، دخل الكاتب العماني بشكل مفاجئ في مُحيط العمل السياسي، وليته فعل ذلك وهو يوضح بعلانية كما فعل البعض بنُبل شديد، وهو يوضح أنَّ هذا النوع من العَمل هو عمل يقع في محيط [السياسة]، البعض فعل ذلك وكان صريحًا، والبعض الآخر واصل عملية الخداع الممنهجة التي كان كثير من الكتاب يتابعون آثارها ونتائجها بقلق شديد وكبير.
خذل الكاتب العُماني الدولة التي حاولت كل جهدها أن تكسبه في صفها واختار الانسياق وراء الخطاب العربي المحموم والمشتعل، انساق البعض مكرهاً تحت ضغوط رفاقه الآخرين، وانساق البعض مذهولاً بوهم البطولة المؤقتة، وعندما احتدمت الأشياء في عام 2011م، اكتفى فريق من الكُتاب بالصمت ومراقبة ما يحدث بحزن بالغ وشديد.
بين من اختار أن يخادع الرأي العام في الوقت الحرج وقف البعض بشكل خجول ليطرحوا الحقائق كما هي، قلة من الكتاب في الصحف كتبوا ولم يلتفت إليهم أحد، في الجانب الآخر بسبب آخر هو المجتمع نفسه الذي انساق وراء ما يحدث، هذا ما صنع لدينا وهماً ميدانياً ضيّقاً للغاية في إحدى الساحات التي نسبت زورًا وبهتانًا للشعب، كانت الأرقام متواضعة ومُحزنة ولم تتجاوز عدداً يُمكن أن يقنعنا بأننا نرى حالة [شعبية حقًا]، وهناك وقفت الأشياء وقفة حق في الميدان، هناك من قال، وهناك من كتب، وهناك من اعترض، وهناك من توافق مكرهًا ومذعناً على ما يحدث لعله يصلح شيئاً، لكن الحقيقة التي يجب أن تقال أنَّ الكاتب العُماني وقع تحت إغراء اللحظة الكبرى، لحظة الربيع التي جعلت الجميع في حالة [خدر] وغياب كُلي عن عواقب مثل ذلك الحراك من العصيان المدني. اشتعلت النت، واشتعل الكتاب بين محرض وبين مُخذّل وبين مُتعقل وبين خائف وقلق، وترافق ذلك مع قرارات سياسية حكيمة أمام تلك الحالة، واستطاعت القرارت الحكومية وقتها احتواء تلك الحالة الشعبية التي انتهت بسهولة ويُسر لولا قيام أحد الكتاب العُمانيين بتصرف مُتهور أدى إلى دخول عدد من زملائه السجون.
فات العيد الوهميّ واستيقظ الكاتب العُماني على حقيقة مُخيفة ومُفزعة، أنّ الذي كان يظنه حالة شعبية أصبح بين ليلة وضحاها حالة من حالاتٍ النفعية المؤقتة التي مرَّت مرور الكرام. خلت الساحات وجاء وقت تصفية الحساب العالق. الذي دفع الثمن هم كل الكُتاب العمانيين بلا استثناء، ومعهم دفعت المؤسسات الثقافية القائمة كلياً على الدعم الحكومي الثمن، دفعت الحركة الثقافية الثمن أيضًا، وهنا دخل نبل الكاتب العُماني أيضًا الذي اكتفى بتحمل ما يحدث صامتاً غير لائم. فات العيد الوهمي وانتهت تلك الخُطب وعادت الأشياء إلى طبيعتها، ومرَّت السنوات لتكشف لنا حجم الدمار الذي خلفه ذلك العام المشؤوم، وما هي النتيجة الآن؟ وما هي الخسارات؟ خسارات من فعل ومن لم يفعل، خسارات من تكلَّم ومن صمت، خسارات أصابت كل تلك الحالة من الفضاء الحُر وحولتها إلى حالة من الفضاء القلق.
كما تُلاحظ أيها القارئ، لا أدين أخطاء الماضي التي كُنت نفسي أحدها، أتأملها الآن بعين ما فات وأقول إنّ حقيقة كان يصعب علينا قولها وهي أن المغامرات الحمقاء التي كلنا ككتاب فعلناها قد أودت بحرية الكاتب العُماني وجعلته مجددًا يعود إلى سنوات سابقة أصبح فيها محل شبهة دائمة حدثت لخلل في قراءة اللحظة الحالية آنذاك، وما تزال مستمرة إلى الآن للأسف. لقد خذل الكاتب العماني الدولة التي فتحت له كل باب ممكن ليمارس عمله الثقافي، الجمعية التي كادت أن تتحول إلى مركز حراك حضاري، المؤسسات الثقافية التي كانت تمارس دورا تنويريا اختفت من الوجود، الكاتب الفردي الحُر الذي كان يمارس كتابته المسؤولة والناضجة ويشيع رسالة الأمل والحب والوئام والصدق، العملية النقدية التي كانت ضد الأخطاء العامة، ثقافياً، وسياسياً، واقتصادياً واجتماعياً وفنياً ودينياً توقفت، كل ذلك انقشع مثل سحابة صيف حار، تبخر في الهواء، وكل المكتسبات التي نالها الكاتب العُماني خسرها بسبب عدم مسؤوليته في اللحظة الحرجة، عدم قدرته على أن يقول [لا] في وجه تلك التصرفات المتهورة التي قام بها البعض وأنا منهم ولا أبرئ نفسي، كان يجب على الكاتب أن يقول [لا] في وجه زميله الكاتب، وكان يجب على الفئة الوسطية أن تتولى الخطاب المُقنع، ولكن هل هذا حدث؟ وقع الكاتب تحت الضغط الشعبي، ووقعت الكتابة ضحية كبرى من قبل الطرف القوي الممثل بالمؤسسة الرسمية والطرف الذي تخلى عن الكتابة بحكم أنها صارت [تسبب المشاكل] بعدما مرَّت موجة البطولة المؤقتة لتحل معها الحقائق المحزنة التي كشف عنها الزمن.
رغم كل شيء، نعم الكاتب حالياً ضعيف ولا حول له ولا قوّة، ولكن الكتابة لم تكن ذات يوم ضعيفة. إنّ المجتمعات بشكل عام تقوم بتصفية عملية التلقي لتقوّي شكلا من أشكال الكتابة وفق الحاجة العامة حينها. هؤلاء الكتاب رغم الأخطاء التي اقترفوها ما يزالون هم الأكثر خبرة في تناول الحراك العُماني، هؤلاء الذين عملوا يوماً من الأيام تحت مظلة السياسة باسم الثقافة لم يعودوا يفعلون ذلك، وهؤلاء الذين خادعوا الرأي العام ذات يوم انكشفوا وانفضحوا ولم يعُد المجتمع يقرأ لهم حرفاً، وهؤلاء الذين اختاروا الوطن في اللحظة الصعبة أيضاً دفعوا الثمن الذي فعله البعض الآخر، البعض بنبل الانتماء، والبعض بغباء التصديق لأوهام الربيع العربي المشؤوم، ليس هدفي الآن تعليق الخطأ على المخطئ، الكل أخطأ من كل جانب، ولكن هل من المنطقي أن تقف الكتابة في شلل كبير ونحن الآن في أمس الحاجة إلى عودة ذلك الحراك النبيل الذي يضع الوطن ومصلحته العليا فوق كل اعتبار؟؟ إن استمرار حالة الشلل في الكتابة الوطنية سيؤدي إلى مشكلة كبرى، والسبب هو ذاته الذي جعل البعض يخرج عن العملية الطبيعية للكتابة كبناء طويل الأمد وكحالة أسئلة مستمرة تتناول الوطن بعين الحب والبناء هم الذين شكلوا حاجزًا يمنع وقوع الحماقات، بالوضع الحالي سيتكرر الأمر مجددًا ولكن ستختلف الأسماء فالاحتقان الحاليّ الذي لا يجد إجابات مقنعة من الكاتب الرسمي، سيؤدي مجددا إلى صناعة كاتب شعبي مؤقت، يقع في الخطأ نفسه وسيكون أكثر تهورا، ويدفع الثمن أكثر مما دفعه الجيل السابق، وإن كان الكاتب ضعيفًا فإنّ الكتابة ستظل قوية وستظل حاجة ملحة لأي وطن، على الحكومة العُمانية أيضًا أن تبدي بعض المرونة وأن تتناسى أخطاء الماضي التي لن تكون قابلة للتكرار، لقد أدرك المواطن العربي كما أدرك المواطن العُماني خطورة هذا النوع من العصيان المدني، خطورة هذا النوع من الخروج المُباغت عن سيرورة الأشياء، أقول ككاتب لا يؤمن بالثورات، ولا يؤمن بالتغيير الراديكالي المتهور إنّ عملية التغيير البنّاء التي توقفت سيحل محلها عملية هادمة ومؤذية لو تركت الأشياء للتفاقم. المظلة الحرة للكتابة جزء من الحاجة العامّة شئنا أو أبينا، ولن يقوم بهذا الدور أي فريق رسمي مهما كان بارعًا.
آن الأوان حقاً لكي يتناسى الجميع جروحه، وأن تمد يد الثقة من قبل كل طرف إلى الآخر. وما لم يحدث ذلك فإنّ الانتقاء العشوائي سوف يُكرر الأخطاء، وهذه المرّة ستكون أخطاء من قبل عدد هائل من الذين لم يحترفوا الكتابة ولم يعرفوا مآزقها. كما يقولون، فإنّ الإنسان لا يَخْلص من وطنه، وكذلك الوطن لا يخلص من أبنائه، مئات الكتاب الصامتين حاليًا، يفعلون ذلك لسبب بسيط، لأنّهم يعرفون قوّة الكتابة، ضعفاء نعم، ولكن الكتابة هي القويّة، وليت شعري إنّ مثل هذه القوّة يجب أن توضع من أجل صالح عام متفق عليه، وإلى أن يحدث هذا الاتفاق، فإنّ العفو والمسامحة يجب أن تكون سيدة الموقف، عدا ذلك، فإنّ الماضي لن يفتح أكثر من أبواب الانتقام، والكراهية. عدا ذلك، فلو تكررت لحظة صعبة، ستكون نتائجها هذه المرة أكثر وخامة من السابق، وليت قومي يعلمون.