مصيرها الفشل.. وهذه حججنا

د. عبدالله باحجاج

وأخيرًا صَدَر عن الحكومة ما يجعلنا نلمس أهمَّ بوادر الجدية في تطبيق الرؤية الوطنية 2040، خاصة في شقها المتعلق بالتنوع الاقتصادي، وكذلك بوادر لاستدراك تداعيات سياسات وقف التوظيف والتعمين والإحلال، فهل نتوقع وهجًا تنظيميًّا جديدًا تعيشه البلاد خلال المرحلة المقبلة؟ ربما علينا هنا أن نكون حادِّين قليلا، ونقول إنَّه يجب أن نصنع هذا الوهج، ونجعله يدخل كل النفسيات الاجتماعية وبالذات نفسيات شبابنا الذين ينتظرون الأمل في كلِّ إشراقة صبح جديد، وهذه فرصة مُواتية لعودة التفاؤل، وهذا لن يتَّأتى إلا إذا كان وهجا كَوهَجُ الْمِسْكِ أَوِ العِطْرِ، أي اِنْتِشَارُهُ، وكوَهَجُ الطِّيبِ التي تنْشَرَحَ منه الأَنْفُسُ، وهذه إمكانية مُتاحة الآن، إذا ما عرفنا كيف يمكن تطبيق هذه البوادر المهمَّة جدًّا، ونخصُّ بالذكر المنشور المالي الصادر مؤخرًا عن وزارة المالية بشأن رفع نسبة التعمين في الشركات الحكومية.

ولماذا نركز على هذا الملف؟ لأنَّ قضية الباحثين عن عمل هى من بين الثلاثة القضايا الأولى التي تُشكِّل أولويات وطنية مُلحَّة جدًّا، واستشرافات تداعياتها واضحة؛ فهناك تراكم سنوي مُقلق للباحثين عن عمل، ومن فئة الشباب، ورغم عدم وجود إحصائية رسمية دقيقة؛ فمعظم التوقعات ترجِّح وصول عدد الباحثين إلى 140 ألفا؛ فكيف لو استمررنا في اللاءات: لا للتوظيف، لا للترقيات، لا للتعمين والإحلال، إلى سنة أو سنتين مقبلتين أو أكثر في ظل المرحلة المالية الحرجة جدا التي تمر بها بلادنا. ومن هنا، تشكِّل الشركات الحكومية مع الشركات الخاصة الكبيرة في البلاد، الخيار الوحيد مرحليًّا لحل مشكلة الباحثين عن عمل، فعلى صعيد الشركات الحكومية، هناك 60 شركة حكومية مطالبة الآن بقرار مالي ووضع خطط لإحلال المواطنين محل الوافدين، خاصة في الوظائف العليا والمتوسطة خلال الخمس سنوات المقبلة، وهذا التوجه بإطاره الزمني المحدد -مع التحفظ على التمدد الزمني سيأتي ذكره لاحقا- يعكس نظريا جدية الحكومة في مجال التعمين، كما يظهر وعيا جديدا بقضية الباحثين عن عمل وتداعياتها، لكن تظل الإشكالية الدائمة تكمن في التطبيق؛ فخلال المرحلة الماضية، فشلت الجهات الحكومية والعمومية في حمل الشركات على التعمين وفي وضع خطط زمنية للإحلال، والسبب إعطاؤها السلطة المطلقة في التخطيط والتنفيذ والمراقبة، ومن ثمَّ لم تحقق لنا النتائج المطلوبة من أهداف الدولة المعلنة، وهناك شواهد كثيرة، نستحضر هنا: اعتراف السلطة المالية في منشورها الأخير بعدم تحقيق الشركات الحكومية نسب التعمين المطلوبة، وعدم وجود لديها خطط للإحلال، فهل هذا المنشور سيلزم الشركات الحكومية الآن باستدراك أخطائها من تلقاء نفسها؟ لا يُمكن الرهان على من قادونا إلى هذا الفشل في تحقيق النجاح رغم التمثيل الحكومي في مجالس إدارتها؛ فالتجربة تجعلنا نستخلص هذه النتيجة، وهذه قضية في حد ذاتها، وحلها، لا يكمن في الاستمرار في نفس النهج السابق، وإنما يستدعي تشكيل لجنة استراتيجية مستقلة تضم خبرات وطنية من أعضاء بارزين من مجلس عمان -الشورى والدولة- ومن أكاديميين وخبراء والمجتمع المدني، ومن الحكومة كذلك، تناقش خطط الشركات ونسب التعمين السنوية والاحلال، وتراقب وتعمل في الوقت نفسه على سرعة إحلال العمالة العمانية المؤهلة محل نظيراتها الأجنبية، وتعمل على توظيف آخرين في الشواغر، ورفع نسبة التوظيف وفق الحاجة الفعلية للشركات، وفق برنامج زمني واضح ومحدَّد، وهذه الآلية هى التي ستعزز جدية الحكومة لدى الرأي العام بعد أن وصلت حالة عدم الثقة بين بعض الجهات الرسمية والمواطنين إلى مستواها الأدنى، وستبعث له رسالة الجدية فورا، وستصل إلى قناعاته بالتأكيد، ولن تصل إلا بالانعتاق من مرحلة تغيب الشراكة المستقلة والمجتمعية في قضايا التوظيف، وهذه المسألة غائبة في توجه المنشور المالي؛ فقد جعل التعمين والإحلال وخططهما وتنفيذها حكرًا خالصًا على الشركات نفسها، وقد احتكرت ذلك سابقا، والنتيجة؟ الإخفاق؛ لهذا نتوقَّع مُسبقا الإخفاق نفسه، فعندما يجعل المنشور اعتماد الخطط من صلاحية رؤساء مجالس الشركات، فذلك يعني نسخ الإخفاق؛ فرؤساء المجالس غالبا ما يكونون وزراء، وفي عهدهم -ولا يزال هذا العهد قائما- أخفقت الشركات في التعمين والإحلال، بل وفصَّلت هذه الشركات تشريعاتها على مبدأ الانتفاع؛ حيث سنَّت قوانين داخلية تمنحهم امتيازات مالية وعلاجية لا حصر لها، تستنزف الموارد المالية للشركات، فهل سينجحون الآن من تلقاء أنفسهم؟ التساؤل مطروح لصناع القرار للتفكير من منظور التجربة الماضية التي أوردنا بعض تفاصيلها سابقا.

كما أنَّ تمديد فترة خمس سنوات لتحقيق النسب المرضية للتعمين والإحلال بخمس سنوات أخرى، ينبغي أن يُعاد النظر فيه؛ فهى تشوِّش على هذا التوجه من أساسه، فعشر سنوات مهلة لتنفيذ الخطط طويلة جدًّا، وغير منطقية وغير عملية، وتفرغ التوجه المالي من جوهر، ويدرجه ضمن الشعارات البراقة التي لن ترى النور، وهنا نجد نفس الخطأ يتكرر مع الرؤية الوطنية 2040؛ فهذا المدى الزمني الطويل لن يحفز الجهود على النجاح، ولن يسرع بها، وسيجعلها تغرق في مستنقع التراخي والتمطيط الزمني، كما أنَّه لن يُحِّمل الفاعلين مسؤولية نجاحهم أو تبعات فشلهم، فمن المؤكد أنهم سيغادرون الوظيفة العمومية قبل الانتهاء من تلك الفترة الزمنية، فمن سيحاسبهم؟ وكيف؟ مثل الوضع في "الرؤية 2020" فقد غادرها منظرها والمدافعين عنها، وتركوا بلادنا حبيسة النقطة التي انطلقت منها، وهى الاعتماد المطلق على النفط، فهل تمت محاسبتهم أو سوف تتم محاسبتهم؟ ومن هُنا، لا يمكننا أن نثق برؤساء مجالس ادارات الشركات الحكومية الحالية على تنفيذ هذه المبادرة الوطنية الجديدة/القديمة، فهم من أهم المعطيات التي أنتجت الفشل طوال العقود الماضية -ولا نُعمِّم- ووهم الذين في عهدهم تتعثر بعض الشركات، وفي عهدهم تصرف موازنة الدولة على الشركات الأموال الطائلة رغم أنها تدار بعقلية القطاع الخاص، فهل ينبغي أن نحملها مجددا مسؤولية ملف من أهم الملفات الوطنية على الإطلاق؟ وتلكم من كبرى المآخذ الموضوعية على المنشور المالي، مما يستوجب التنبيه له، والعمل فورا على تفاديه، إن كنا جادين في مواجهة مرحلة مصيرية تمس خطورتها المنطقة الاجتماعية التي بتداعيها ستتداعى معها بقية المناطق الأخرى المهمة.

وتستند اعترافات وزارة المالية على إخفاق الشركات في تحقيق نسب التعمين المطلوبة على تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية، وبهذا نجد أخيرا من يعتد بتقاريرها، ولو فعلنا ذلك سابقا، لربما لن نصل إلى مستوى الإخفاق الذي وصلنا إليه الآن، خاصة منذ العام 2011؛ فهى ترفع تقاريرها دون أن تفتح ملفاتها، وفي أحد تقاريرها، تكشف عن وجود عدد من الموظفين الذين يتراوح أعمارهم (60-72) سنة غير العمانيين في أحد القطاعات، فأين إرادة تنفيذ التعمين والإحلال؟ إذن، هل ينبغي الرهان على الإرادات نفسها الآن؟ حاجتنا الآن تختلف عن الماضي تماما؛ فالرهانات الوطنية تتوقف في حلِّ مشكلة الباحثين عن عمل على الشركات الحكومية والخاصة. ومن هنا، تنبع أهمية تشكيل لجنة وطنية تضم كلَّ القطاعات في البلاد، بما فيها القطاع المدني، للمهام الإستراتيجية، ولمهمة فتح نقاشات مع الشركات الخاصة لرفع مرتبات العمانيين وزيادة نسب التعمين فيها، ولعل تجربة المديرية العامة للقوى العاملة في ظفار نموذجا يحتذى به في مجال السعي لرفع الرواتب، ومثال إيجابي على تجاوب القطاع الخاص مع هذه المساعي، فقد تمكنت مؤخرا من رفع الرواتب في بعض الشركات، إذن، ليس هناك مستحيل ولا صعب إذا ما توافرت النية الصادقة في خدمة الوطن والمواطن، وبحثنا عن الأطر والكوادر الوطنية المخلصة، واشتغلت في إطار عمل جماعي متكامل ومتعدِّد وشفاف، بدعم إعلامي مُتخِّصص، يضع المواطن أمام الحقائق.. عندها يمكننا التنفس حتى لو كنا في عنق الزجاجة.