علي كفيتان
في صبيحة اليوم التالي كان الجو صحوًا، وبعد أن تجرَّعنا حليب الأغنام الساخن ودَّعنا عائلة العم "علي" ذاهبين للمدرسة، بدا لنا المعسكر الرابض في مكان فسيح حوله أكوام الأسلاك الشائكة وعلى أطرافه مراتب الحراسة.. الشعور مهيب: رجال يحملون بنادق الإفن تعلوهم الابتسامة والحذر معا، وأنا كنت لا أزال على ظهر أبي مندسًا في ذلك الشال الثقيل خلف ظهره، باستثناء رأسي الظاهر على كتفه الأيسر، وكنت أرقب المعسكر من خلف جدائل شعره المتدلية أمامي، وصلنا عند البوابة الرئيسية لفرقة أبو بكر الصديق الشرقية (معسكر طيطام) الرجال جالسون تحت الأشجار المنتشرة في المعسكر، هناك ثلاث خيام إحداها كبيرة وغرفة مبنية من المواد غير الثابتة وحوش من الأحجار المحلية يجلس فيه طباخ الفرقة الباكستاني الجنسية يسمونه المحاربين (محمد يشع).
سلَّم أبي كعادته بصوت عالٍ على الجميع ووضع الشال وكانت المفاجأة؛ فبعض الرجال قالوا كنا نظنك تحمل لنا متاعا، والآخرون استنكروا إحضار هذا الطفل الصغير للمعسكر.. أجابهم بأنَّ المدرسة هي من دفعت بي لإحضاره بينكم، خالي قَدِم بعد قليل، ذهبت إليه مُسرعا وسلَّمت عليه، فهو الوحيد الذي عرفته بين تلك الجموع من المحاربين، وأحسست بأنه كان غير راضٍ عن قرار والدي، ولكنه آثر الصمت وأخذني معه للمخزن؛ حيث استمتعتُ بطعم الشوكولا والبسكوت الجاف المرصوص في تنك حديدة، الأعمار في المعسكر مختلفة فهناك جيل ما فوق الأربعين وهم يملكون القيادة والسيطرة، وهناك جيل الشباب وعددهم قليل ومعظمهم مُنتمون لقبيلتي، باستثناء عدد بسيط من الرجال الطيبين من قبائل أخرى توجد في المنطقة، وشخص إنجليزي قصير القامة مُفلفل الشعر يسمونه "حثينوت"، وقد أصبح يلبس نفس لباس المحاربين التقليدي ويجيد لهجتهم بطلاقة.
وفي المساء اصطحبني أبي لخيمة أستاذ المدرسة وهو الأستاذ "أحمد طلعت" -مصري الجنسية- يعلق بندقية في الخيمة، ويجيد الرمي، وعلمت فيما بعد أنه شارك في حرب أكتوبر، ومن ضمن مواصفات المعلمين في تلك الفترة العصيبة أن يجيد حمل واستخدام السلاح. رحَّب بنا الأستاذ وأجلسني بجواره، فقال له والدي: نريده يتعلم مع الأولاد في المدرسة من الغد، أعجب المدرس بجراءة والدي وبصغر سني، وقال: مرحبا به، فانصرف الوالد وتركني عند الأستاذ أحمد الذي أحضر لي مزيدًا من الشوكولا، وبعد أن سألني وأنا أجاوب بصعوبة، كوني لا أتقن العربية، ولكن ما سهل عليَّ الأمر أن الأستاذ كان يجيد اللهجة الريفية. وبعد جلسة كسر الروتين، منحني قلم رصاص هو الأول الذي أراه في حياتي ودفترا أبيض جميلا، وقال لي اكتب، وعلمني طريقة الإمساك بالقلم، ومن ثم علمني كتابة حروف الأبجدية العربية، وقال إذا كتبتها جميعا صحيحة قبل المغرب فأنت ستكون طالبا من الغد في المدرسة، وإذا أخطأت فستعود للدار.
وفي تلك الأثناء، حضر عدد من منتسبي الفرقة لديهم حصة محو الأمية مع الأستاذ، فانصرفت إلى ظل شجرة في آخر المعسكر وصرتُ أكتب، وينتابني الخوف من العودة للدار إذا ما أخفقت في كتابة الحروف. حضر خالي مرة أخرى ومعه كوب من الشاي وبعض علب البسكويت، وكم كان سعيدا عندما رآني أكتب، كذلك حضر العم بخيت حسن وشجعني كثيرا وما زلت أذكر روحه الطيبة وكلماته المحفزة -رحمه الله. قبل المغرب بقليل، أنجزتُ المهمة وذهبتُ بسرعة البرق إلى الأستاذ الذي كان يُعاني في تعليم الكبار، سلمته الدفتر، صفق لي وأخذني على كتفه، وقال: شوف، هؤلاء الرجال لي أسبوع أعلمهم ما أنجزته أنت اليوم في بضع ساعات. في تلك اللحظات، رمقني العم محاد وقال: تعال يا ولد، علِّمني لقد أصبحت مساعد الأستاذ لشؤون محو الأمية من أول يوم. كم كان ذلك الشعور مريحا.
أذَّن العم سعيد لصلاة المغرب، تحلَّق الجميعُ للصلاة ما عدا من هم في المناوبة ومن هم على جهاز الإرسال اللاسلكي مع السيد "حثينوت"، ورائحة الخبز التي يطبخها "محمد يشع" على صفيحة من درام حديدي تحوم في أرجاء المكان. صليتُ مع المحاربين الفرض الأول لي، الكل مُحتفظ بسلاحه إلى جانبه، وأنا لديَّ دفتري وقلمي.
استودعتكم الله، موعدنا يتجدَّد معكم بإذن الله.. حفظ الله عُمان وحفظ جلالة السلطان.
alikafetan@gmail.com