حاتم الطائي
ترتسمُ فوق قِمَم الجبال الرَّاسيات والسهول الشامخات جداريَّة خضراء من وحي الطبيعة، يلفها الضَّباب بسُحبه الماطرة، فتنساب الينابيع وتتحوَّل إلى شلالات هادرة، تعزف سيمفونية الاستجمام والهدوء على أوتار "الخريف"، الذي يُغدق على محافظة ظفار بالأجواء الساحرة والزخم السياحي الذي يرفد دخلنا القومي ويدفع عجلة التنمية قُدما نحو تجاوز التحديات التي تجابه اقتصادنا الوطني.
ففي الحادي والعشرين من يونيو كل عام، ترتدي "مدينة الضباب" أبهى حللها، حاجزة لنفسها مكانة الصَّدارة كمقصد سياحي يستقطب الزوار من داخل وخارج الوطن؛ باعتبارها الواحة الغنَّاء التي تجتذب سنويًّا مئات الآلاف من السائحين، ممَّن يجدون فيها ملاذا يُفرغون على سهولها وتلالها الخضراء شحناتٍ عناء عام كاملٍ، مستقبلين قبلة الأمل في عام جديد مفعوم بالحيوية والنشاط.
ولأنَّ الطقس الجميل وحده لا يصنعُ سياحة ناجحة، فإنَّ الحديث يتجدَّد مرة أخرى عن حجم الخدمات المقدَّمة لزوار "الخريف"؛ وتطلعات الجميع نحو تغييرات جوهرية في تعاطي خطط التنمية مع "موسمية السياحة" في المحافظة، إلى حيث الاستدامة طوال أيام العام.. صحيح أنَّ هناك جهودًا تُبذل من قبل الجهات المختصة كوزارة السياحة وبلدية ظفار، إلا أن الرهان الحالي يستدعي تمهيد الطريق أمام صناعة سياحية حقيقية في مختلف محافظات السلطنة، وظفار على وجه الخصوص؛ لتكون مصدرَ جذب يُسهم في تحقيق أرقام ومعدلات نمو مضاعفة.
فصلالة التي استقبلت هذا العام ما يقارب على رُبع المليون زائر حتى الآن بارتفاع 40% عن العام الماضي، تحتاج مزيداً من تضافر الجهود لتعزيزِ واقعِ سياحتها الداخلية؛ عبر تقديم خدمات سياحية أفضل؛ ورفع مستوى الخدمات المقدَّمة في الفنادق والاستراحات والمطاعم والمراكز الترفيهية؛ بما يضمن تحقيق تنمية سياحية واقتصادية مستدامة يروم لها الجميع، وتوفير فرص عمل أمام شبابنا من الباحثين عن العمل بما يعمل على زيادة الاستثمارات، ويحافظ على الإرث الطبيعي والتراث الثقافي، ويروِّج للسلطنة كوجهة مميزة تلبِّي طُموحات الزائرين؛ خصوصا وأنَّ بلادنا -ولله الحمد- ترفل في أثواب الأمن والأمان والاستقرار، وسط عالم مشحون بالصراعات والخوف والإرهاب.
ولضمان استدامةٍ سياحيةٍ ناجعة، فإنَّ الضرورة تُحتم تطويرا شاملا للبُنى الأساسية التي تشجع زوار ظفار، وفق خططٍ تنموية تواكب مُتطلبات الحاضر وتراعي احتياجات الزمان والمكان. كما يبرز كذلك دور الاستثمار الخاص في قطاع السياحة؛ من خلال ضخِّ مزيد من الاستثمارات، وتعزيز مفهوم الشراكة بين القطاعين -العام والخاص- في مجال الاستثمار السياحي؛ بما يُسهم في نمو صناعة عملاقة تشكل قاطرة تنموية ترسو باقتصادنا على مرافئ المنافسة عالميًّا.
وباعتباره واحدًا من أضلاع التنمية في المحافظة، فإنَّ مطار صلالة الدولي -بطاقته الاستيعابية التي تصل لمليوني مسافر سنويًّا- لابد أن يُوضع ضمن خطط التطوير؛ نظرًا لما يُشكله من إضافة نوعيَّة مهمة لقطاعي السياحة والطيران المدني بالسلطنة؛ ولما يتمتع به من إمكانيات عالية في الأنظمة والتجهيزات والخدمات، فضلا عن جهود تأهيل الطرق المؤدية منه وإليه، بما في ذلك الجسر الذي يربط الطريق الرئيسي بالمطار، حيث أصبح المشروع الآن كياناً اقتصاديًّا وسياحيًّا واستثماريًّا واعدًا للسلطنة بوجه عام ولمحافظة ظفار بوجه خاص.
ولأنَّ الشيء بالشيء يُذكر، أشير كذلك إلى ضرورة تطوير فعاليات "مهرجان صلالة" بما يلبي أذواق وتطلعات الجمهور؛ فـ"القرية التراثية" أو "البيت التراثي" على سبيل المثال؛ والتي تأسرك بنغمات الكاسر والرحماني والفنون الأصيلة من برعة وشرح وطبل ودان، تفتقد لسِمَات التجديد في مناشطها؛ فلا نبذات تعريفية ولا لوحات إرشادية توصِّف الفنون المعروضة؛ حيث يجد الزائر نفسه فجأة أمام إسكيتشات -هي رائعة في الأداء بالطبع- لكنها لا تُشبع النهم المعرفي لديه؛ خصوصا وأنَّ واحدًا من أهم أهداف مثل هذه الفعاليات هو التعريف بتراثنا التقليدي وهُويتنا العُمانية المتفرِّدة.
... إنَّ المرحلة الحالية بتحدياتها ومتطلباتها تفرض علينا أن نضع تنويع المنتج السياحي في صدارة أولوياتنا؛ بما يعكس تنوُّع وغنى المقومات والمواقع السياحية في كافة ولاياتنا ومحافظاتنا، مع توفير إطار تشغيلي وإداري لتحسين أداء المواقع السياحية والخدمات الأساسية التي تقدَّم ضمنها، والوصول للأسواق السياحية الواعدة من خلال زيادة الاستثمارات، وانتهاج آلية ترويجية مُحسَّنة؛ لا سيما وأنَّ لدينا منتجًا يُمكن تسويقه سياحيًّا على مدار العام، وهذه ميزة نادرًا ما تتوافر في أي من البلاد المجاورة؛ شريطة أن يتم ذلك وفق رؤى جديدة تفتح المجال أمام فرص التنويع السياحي؛ كسياحة المعارض والمؤتمرات، وسياحة البطولات الرياضية، والمهرجانات الثقافية...وغيرها من الأنواع التي تجتذب الملايين حول العالم.
إنَّ عوائد الاستثمار السياحي في "أرض اللبان" ستنعش بلا شك اقتصادنا الوطني؛ من خلال مميزات تنافسية تحدُّ من عبور الأموال إلى الخارج. وهو ما يستدعي إعلانَ حكومتنا الرشيدة -ضمن خططها التنموية- عن حزمة حوافز تعمل على تفعيل أدوار المجتمعات المحلية للارتقاء بهذا القطاع الواعد؛ بما سيكون له مردودُ في زيادة الإقبال على السياحة الداخلية وتخفيف السفر إلى الخارج؛ وفق خطط مدروسة بعناية، تعزِّز سياحتنا الداخلية، وتوظف المقومات الطبيعية للسلطنة.
ومع اقتراب إجازة عيد الأضحى المُبارك، نتمنى أن يُيمِّم المواطنون وجوههم شطر ظفار لتشجيع السياحة الداخلية، واكتشاف المقوِّمات الجمالية الرائعة لبلادنا على مدار العام، بدلاً مما نراه الآن من حُمَّى استعدادات السفر لقضاء إجازة عيد الأضحى في الخارج.
ويبقى القول في الأخير.. إنَّ الآثار التنموية التي ينطوي عليها مفهوم "صناعة السياحة"، لابد أن تأخذ مكان الصدارة ضمن خططنا الوطنية؛ باعتبارها محرِّكاً رئيسيًّا لكثير من القطاعات الاقتصادية الأخرى؛ وبما يجعلها طرفا مهمًّا في معادلة الاستدامة الاقتصادية الحقيقية.