عبيدلي العبيدلي
من القضايا التي يُثيرها انتشار أجهزة الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية، ومعها برمجيات وتطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي هي القراءة بمفهومها الضيِّق. فكثيرًا ما نشاهد مشادة بين طفل منهمك في التواصل مع أصحابه عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وبين من يكبره سنًا يوبخه بانهماكه وإضاعة وقته فيما يعتبره ذلك الراشد غير مُفيد، والأجدر به، من وجهة نظر ذلك الراشد، مُطالعة كتابٍ أو تصفح مجلة مُفيدة، في حين يصر ذلك الفتى أو الفتاة على أنّ ما يُمارسه ليست فيه مضيعة للوقت. تنتهي تلك المشادة إلى مرحلة من المماحكات التي تتراوح بين السخط والشجار.
تُثير هذه المشاهد المُتكررة التي لا يخلو منها منزل عربي، وربما أيضاً منازل المجتمعات الأخرى، مسألة في غاية الأهمية تتعلَّق بالقراءة. وقبل الحديث عن أهمية القراءة وأشكالها المتطورة مع تطور التقنيات، لا بد من التأكيد على الأهمية التي احتلتها وما تزال تحتلها القراءة في أقوال الفلاسفة والقادة.
فحين سئل الفيلسوف الفرنسي عمّن الذي سيقود العالم، كانت إجابته التلقائية المُباشرة والسريعة "إنهم هؤلاء الذين يقرأون ويكتبون". أما الرئيس الأمريكي الثالث توماس جيفرسون فينقل عنه قوله "الذين يقرأون ويكتبون هم الأحرار لأنَّ القراءة تطرد الجهل والخرافة".
وفي تاريخ الأمة العربية الإسلامية، يكفي الإشارة إلى أنّ أول آية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم هي "اقرأ باسم ربك الذي خلق".
وشأنها شأن الأنشطة الإنسانية الأخرى تطورت القراءة، حتى باتت من القضايا التي تثير الفلاسفة ورجال الفكر، بل وحتى المربين. أيضًا. في هذا الصدد ينقل الكاتب المغاربي عبد السلام بن عبد العالي عن الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير قوله، "في إطار مشروعه لإعادة قراءة كارل ماركس، (أنه وجد نفسه) مضطراً إلى إعادة النظر في مفهوم القراءة ذاته. وقد أدى به ذلك إلى أن يُميّز بين نوعين من القراءة: ما دعاه قراءة منفعلة وما سماه قراءة فعَّالة. تقف القراءة الأولى أمام المقروء سلبية متلقية، وهي تَؤول إلى ذلك الفعل السحري البسيط الذي يُلغي المادة المكتوبة ليتمكن من روح النص".
هذا ينقلنا إلى الاجتهادات التي بذلها العديد من الكتاب من أجل الوصول إلى تعريف دقيق ومُحدد يصف القراءة، ومن بين هؤلاء الكاتب وجيه المرسي أبو لبن الذي يعتبر الكتابة أنها "سلسلة من المهارات المحددة تقوم على أساس إدراك العلاقة بين الرموز المكتوبة أو الخطية والأصوات المنطوقة، وتشمل رؤية وتمييز هذه الرموز وإدراك المعنى أو الدلالة وراء هذه الرموز، وبالتالي فهي فعل كلي متكامل للمهارات اللغوية والإدراكية، (ثم يضيف بأنها) عملية عقلية معقدة تشمل تفسير الرموز التي يتلقاها القارئ عن طريق عينيه، وتستلزم تدخل شخصية القارئ واستدعاء جميع خبراته السابقة كي يفهم ويتفاعل بوعي مع ما يقرأ".
ولكي تحقق القراءة جدواها ينبغي أن تتوافر في المادة المقروءة مجموعة من المواصفات التي، من المنطقي والطبيعي، أن يحرص الكاتب على التقيد بها مثل:
· الصحة والدقة، فلا فائدة من قراءة مادة تفتقد إلى الصحة وتخلو من مقاييس الدقة، في الوصف والاستنتاج.
· المصداقية، فلا جدوى من مادة تدعو للقراءة لكنها تخلو من قيم المصداقية التي يضعها الكاتب نُصب عينيه وهو يدعو الآخرين للإطلاع على ما يقدمه لهم.
· الاتِّساق، فما لم تحافظ المادة المكتوبة على نسبة عالية من الاتساق التي تحميها من التخبط، وتحول بينها وبين التناقض بين المقدمات والنتائح، تتحول إلى كم من الكلمات المتتالية التي تنفر القارئ منها، وتحثه على التوقف عن مواصلة الاستمتاع بنصوصها.
· التنافسية، فمهما بلغت المادة المكتوبة من دسامة محتوياها، تبقى غير بعيدة عن رغبات القراء ما لم تتحل بشيء من التنافسية التي تميزها عن تلك التي تُعالج الموضوع ذاته، وتخاطب الفئة ذاتها من القراء. فطالما تحولت المادة المكتوبة إلى بضاعة، تبحث عن سوق، لا بد لها أن تمتلك من المواصفات التنافسية التي تختطف القارئ، وبمحض إرادته من المواد الأخرى المُشابهة.
· الصلاحية، ومرة أخرى نتحدَّث عن السوق وقوانينها، فالمادة المعروضة للبيع، في شكل كتاب، أو مقالة في مجلة، لا تستطيع أن تحتفظ بجدواها بشكل مُطلق وسرمدي، إذ لا بد لها من فترة صلاحية تنتهي بانتهاء المدة التي تدعي تلك المادة صلاحيتها. هنا ينبغي التوضيح بأنّ هناك علاقة تناسب طردية بين عُمر الصلاحية والفترة التي تُغطيها المادة، بمعنى أن القراء يعودون لمواد تاريخية قديمة عند معالجتهم لموضوع يتعلق بتلك الفترة ذاتها، من مواد وكتابات وكتاب.
· إمكانية الوصول، أي قدرة المحتاج للمادة للقراءة، أو الباحث عنها، على الوصول إليها في الوقت المناسب، والكلفة الملائمة، وفي الإناء الحاضن المُناسب. فهناك تناسب عكسي مطلق بين رواج المادة، وحجبها عن قرائها. فطالما منع القارئ من الوصول إلى مادته التي هو في أمس الحاجة لها، في تلك الفترة الزمنية القائمة، وفي نطاق الظروف المحيطة به، تتحول المادة إلى نص صامت غير ذي جدوى.
هذا يُعيدنا إلى المربع الأول الذي انطلقنا منه، فوسائل التواصل الاجتماعي ليست أكثر من قناة، والهواتف الذكية والحواسيب اللوحية، لا تعدو كونها أجهزة ومعدات، فما ينبغي مناقشته هنا هو قضية المادة التي تحتضنها تلك الأجهزة وتبثها تلك القنوات، وطرق تحفيز من يقتنيها على التمييز بين الغث والسمين.
فمتى ما كانت المادة دسمة ومُفيدة، شأنها شأن ما نقرأه في الكتب الجَّادة، أو المقالات الرصينة، لا يعود هناك أي مبرر يبيح للراشدين منع الفتيان والفتيات من استخدام تلك الأجهزة والاستفادة من تلك القنوات لما هو في صالحهم. أما إذا اختلف الأمر فهو بحاجة إلى مناقشة جادة تُعالج قضايا الكتابة والقراءة من الجذور.