علي المعشني
تتوالى التحليلات لموقف أردوغان من سوريا، مؤخرًا، وتصريح رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم بأنَّ بلاده ستقيم علاقات "طبيعية" مع دمشق.
ليس من الغريب أو من المُستبعد في السياسة أن يلتقي الخصوم وتعود علاقاتهم طبيعية، وأن تطوى ملفات خلافية بقيت مفتوحة لسنوات، وتغلق للأبد لمجرد أن تلوح بارقة مصالح هنا أو هناك، تتطلب التعالي على الجراح والسمو فوق الاحتراب، أو بارقة خطر تتطلب تقاطع المصالح بين الخصوم وتهدد كياناتهم.
الجديد في الموقف التركي المفاجئ من الأزمة السورية ليس الإذعان للغة العقل والمنطق وقواعد العلاقات الدولية ومقتضيات السياسة والجوار، بل الاعتراف التركي الصريح بهزيمة نكراء لإستراتيجيتهم في إدارة الأزمة السورية وغياب عنصر الحسم فيها لغاية اليوم؛ وبالتالي فقدهم لجميع رهاناتهم على التوالي.
ملفات الأزمات السياسية مُعرَّضة للمزيد من الأوراق والمفاجآت غير السارة، طالما بقيتْ مفتوحة ودون معالجات سريعة وحاسمة. وهذا ما حدث تمامًا للموقف التركي من الأزمة السورية، والتي راهن فيها الخصوم على التغيير الجذري في سوريا خلال ثلاثة أشهر، وفاجأتهم دمشق بصمود أسطوري يفوق الخمسة أعوام؛ فانقلب السحر على الساحر، وتساقط المراهنون على التوالي.
خمس سنوات عِجَاف أحرق فيها أردوغان كلَّ أوراقه، وسد جميع طرق عودته، واستنزف فيها كلَّ مراحل استراتيجيته، ولم يتبقَّ لديه سوى ورقة الدمار المنظم ورعاية الإرهاب والإرهابيين في وضح النهار، حتى ألصق به حلفاءه تلك التهمة والوظيفة إلى درجة تقليب أوراق التاريخ ونبش مذابح الأرمن على يد أجداده وكأن الحفيد يُنفِّذ أفعال الأجداد بتفانٍ كبير؛ الأمر الذي جَعَل الإرهاب يحرق أطراف تركيا وقلبها، ويعرض الوحدة الترابية لها بالتشظي والتشطير تمامًا كما تمنى وسعى لجارته وعمقه الجغرافي سوريا.
قد يخلط البعض بين الهزيمة الإستراتيجية والواقعية السياسية في محاولة فهم وتحليل الموقف التركي من جُملة قضايا وملفات مؤخرًا، ولكننا يمكننا الفرز وبسهولة بينهما، فبينما تحلى أردوغان بالواقعية السياسية مع الروس وأذعن لشرطهم في عودة العلاقات بينهما بالاعتذار عن إسقاط الطائرة وقتل قائدها، فإنَّ موقفهم من سوريا يُعدُّ هزيمة نكراء واعترافا صريحا منهم بفشل رهاناتهم رغم كل التجييش المادي والمعنوي.
كان يُمكن أن نصف أردوغان بالعقلانية والواقعية لو أنَّ موقفه هذا من سوريا كان بعد العام الأول للأزمة أو بعد تبين صلابة الموقف الروسي وجديته من الحليف السوري، حين تبين لجميع العقلاء أن مصالح روسيا مع سوريا أكبر بكثير من مصالح روسيا في سورية؛ وبالتالي فقد تحوَّل التحالف بينهما إلى تكامل عضوي في الواقع والمصير. وكان يُمكن أن نصفه بالعقلاني والحكيم لو أنه رفض الانغماس في الدم السوري من الأساس واحترم الجوار والتاريخ والأواصر بين البلدين.
إعلان تركيا اليوم وعلى لسان رئيس وزرائها بعودة العلاقات الطبيعية مع سوريا يختلف كليًّا عن دعوات التنسيق الأمني التي يطالب بها الغرب من دمشق لكبح الإرهاب والسيطرة عليه داخل الجغرافية السورية.
ومن هنا، يُمكن الجزم بأنَّ تركيا، وفي هذا الظرف بالتحديد، لا يُمكنها انتقاء ملفات بعينها للتنسيق والتعاون مع دمشق في إطار وشعار علاقات طبيعية مرتجاة، خاصة وأن دمشق تحتفظ لنفسها وللتاريخ بقصاص قانوني وأخلاقي كبير من تركيا، التي عبثت بكل الثوابت في لحظة سعار سياسي غير مسبوق.
تركيا دولة محورية كبرى في المنطقة وتتمتع بمقومات طبيعية وجغرافية وديموغرافية مهمة ومؤثرة تمكِّنها من قول "لا" للكبار في لحظات تاريخية فارقة كالأزمة السورية مهما بلغت الضغوطات والمساومات من الآخر.
ولكن أن تتطوَّع تركيا وترمي بسياسات "صفر مشاكل" والعمق الإستراتيجي عرض الحائط، وتعيد نكبات سياسة عدنان مندريس في الخمسينيات والستينيات بتطوعه في حلف بغداد للنيل من العرب وتقوية شوكة الكيان الصهيوني الغاصب في المنطقة وكما يفعل أردوغان اليوم، في سبيل الحصول على عضوية ناد مسيحي مُغلق يسمى الاتحاد الأوروبي.
يُمكننا اليوم أن نتفهَّم مغامرات مندريس، والتي أودتْ به إلى حبل المشنقة لاحقًا، ولكننا لا يُمكننا تفهُّم سعار أردوغان في القرن الحادي والعشرين وبعد سلسلة تجارب من سبقوه في السلطة في التعاطي مع الغرب ومحيطهم العربي والإسلامي.
ما يتَّبعه أردوغان اليوم لا يمكن أن يوصف بالسياسة بقدر ما هو تصرفات الرعاة أجداده في آسيا الوسطى حيث يتنقلون من موقع لآخر بحسب الكلأ وطيب المرعى؛ لهذا نجد أردوغان يتنقل بين الحلفاء والخصوم ويضحي بالأصدقاء ويتنقل بين الحرام والمباح؛ فالغاية تبرر الوسيلة لديه، معتقدًا أنها براعة ومرونة سياسية بينما لسان الحال ينطق بعكس ذلك ويشي بتخبط غير مسبوق يسبق العاصفة الكبرى وينذر بملامحها عليه وعلى حزبه وبلاده.
لقد تيقَّن الأسد، ومنذ بداية الأزمة، بأنَّ الصبر العظيم يولد النصر العظيم؛ فتحلى بذلك وذاق طعم الصبر في مراحل من صراعه وأزمة بلاده ورأى بعينه تساقط الخصوم وتدافعهم من تحت الطاولة للتنسيق معه وسعيهم لعودة المياه إلى مجاريها، ولم يكن أردوغان الأول ولن يكون الأخير.
فشتان ما بين طموح أردوغان وبشار وتكوينهما النفسي والفكري، فبينما يحلم الأول بتحقيق الوهم والخلافة على حساب كل شيء وأي شيء، لا يطمح بشار ولا يحلم سوى بعيادة خاصة به في إحدى ضواحي دمشق بعد هدوء العاصفة وعبورة بسفينة بلاده إلى شاطئ الأمان والتخلي عن المسؤوليات جميعها لحكومة وطنية في ظل سوريا واحدة وبكافة مكوناتها ومؤسساتها الرسمية الحرجة؛ فأردوغان يحاكي الواقع ويتمثل للظرف، بينما يحاكي بشار التاريخ ويتمثل لسننه لهذا ينتصر التاريخ على الظرف ويسجل نقاطه بأحرف من نار ونور.
----------------------------
قبل اللقاء" "من يقرأ التاريخ يقرأ المستقبل"، وبالشكر تدوم النعم!
Ali95312606@gmail.com