استشرافات.. مستعجلة جدا

 

د. عبد الله عبد الرزاق باحجاج

ماذا ستنتج لنا السياسة المالية الراهنة؟ آن الأوان لطرح هذا التساؤل بعد أن توغلت السياسة المالية للحكومة في المساس بمكتسبات وحقوق اجتماعية مُتعارف عليها منذ عدة عقود، وهي تشق طريقها لحصد مكتسبات اجتماعية أخرى، لكن إلى أين؟ هل هناك دراسة أو رؤية استشرافية للتحديات الاجتماعية الناجمة عنها؟.. والخطورة التي نعلي من شأنها هنا، استمرار اعتماد السياسة المالية للحكومة على الإيرادات السيادية في حل المشكل المالي دون الإيرادات الاقتصادية، إذن، هل لنا أن نستشرف في عجالة التداعيات الاجتماعية الراهنة والمقبلة؟ وهل استشرافاتنا ستكبح جماح الحل المالي؟

من المعروف أنّ إيرادات الدولة تنقسم إلى قسمين، الأول، إيرادات اقتصادية وهي التي تحصل عليها الحكومة بصفتها شخصًا قانونياً يمتلك الثروة مقابل تقديم خدمات اجتماعية عديدة، ويشمل هذا النوع من الإيرادات بيع وإيجار عقارات الدولة وأرباح مشروعات الدولة الاقتصادية، والثاني، ما يطلق عليها بالإيرادات السيادية، وتحصل عليها الحكومة جبراً مثل الضرائب والرسوم والغرامات والمنح الخارجية والقروض والإصدار النقدي، ويبدو أنّ الحكومة تُركز جل اهتمامها على الإيرادات السيادية، وتحديداً على الضرائب والرسوم ورفع الدعم عن الخدمات، وهذا ما يجعلنا نفتح ملف التداعيات الآن قبل أن تترسخ داخل بنيتنا الاجتماعية، وهذا يعني حصر السياسة المالية للدولة على تحقيق هدف واحد، وهو استدامة الاستقرار المالي للموازنة بمعزل على بقية الأهداف الأساسية الأخرى، مثل، رفع مستوى المعيشة أو تحسينها أو حتى الحفاظ عليها، وزيادة فرص العمل، وإعادة توزيع الدخل والثروة بين طبقات المجتمع الثلاث بصورة تراعي ميكانزمات وآليات الاستقرار الداخلي، ومثل هذه الأهداف الإستراتيجية غائبة تماماً عن استهدافات السياسة المالية الراهنة بسبب ضغوطات انخفاض الإيرادات النفطية، ربما لا تدرك الحكومة عواقب هذا النوع من السياسات التي تتبناها حاليًا، فهي تمس الطبقة الوسطى التي بدأت فعلاً تحس بثقل هذه السياسة عليها، وقد أشرنا في مقالنا الأخير،، أين إعلام المواجهة ؟،، إلى لجوء بعض المواطنين إلى بيع سياراتهم التي تستهلك وقوداً أكثر وشراء سيارات من الموديلات التي تستهلك وقوداً أقل .. وكلما ذهبنا بعيدًا في هذه السياسة كلما تصاعدت أكثر التداعيات الاجتماعية.. مما قد يمس بجوهر الوضع الطبيعي للطبقات الثلاث – الغنية والمتوسطة والفقيرة – فالوضع الطبيعي أن يكون لدينا طبقة وسطى تتسع، ومفتوحة لها أبواب الطبقة الغنية، وطبقة فقيرة تتقلص، ويكون الولوج للطبقة الوسطي مشروعًا، من هنا نرى أنّ السياسة المالية الراهنة لا تتناغم مع هذا المسار الطبيعي، بل إنّها في طريقها إلى أن تقلبه عكسيًا، بمعنى، اتِّساع نطاق الطبقة الفقيرة، وتقليص الطبقة الوسطى، وجعل الطبقة الغنية منحصرة في أقلية عددية، تعيش في أبراج عالية، وإذا ما رافق معها سياسات أخرى مثل التقليص في برامج التعليم الجامعي والعالي وبرامج التَّدريب، فإننا ينبغي أن ندق ناقوس الخطر على ثلاثية الطبقات، فهل سيكون المستقبل الآمن في الثنائية؟ هذه الرؤية الاستشرافية العميقة، قد لا نصل إليها بالضرورة، بمعنى أنَّها ليست حتمية في ظل سياقات السياسة المالية الراهنة، وإن كانت ستفرز لنا اختلالاً في التوازنات لو استمررنا في وقف الترقيات والتوظيف، لكنها مسألة مفترضة إذا ما تقاطعت معها سياسات أخرى مثل المساس بالتعليم والتدريب والتوظيف، والاستمرار في رفع الدعم الحكومي لخدمات أساسية كالكهرباء والماء، عندئذ سيفقد الكثير من شبابنا خاصة الذين ينتمون للطبقات المتوسطة والفقيرة، الفرص التعليمية والمهارية .. مما يفقدهم ديناميكية التحرك والانتقال إلى أعلى، وفي هذه الحالة قد نجد احتمالية الثنائية قائمة إذا لم يكن لدينا الوعي والعلم بالتداعيات المسبقة، وهناك الكثير من المسارات التي تفتقد إلى الذكاء السياسي، كحصر الطموح الحكومي عند عدم المساس بالمُرتبات في ظل جدلية المساس بها في أسوأ الاحتمالات، وهذا أكبر الأخطاء الإستراتيجية، ولا يعبر عن الجانب الإبداعي في إدارة الأزمة النفطية ولا عن الوعي الوزاري المفترض لدولة تشعر بحاكمية بعدها الاجتماعي، وثقله في كيانها المتجذر تاريخيا، فالعمل على فلسفة الحد الأدنى، أو حتى الحدود الدنيا يعد غير آمن للحكومات في ظل الأزمات، كما يؤطر التشاؤم ويرسخ الخوف الاجتماعي من مستقبل الأيام، بدليل الهاجس الاجتماعي المرتفع من خفض المرتبات، ولا نعتقد أنّ هذه الفلسفة يجانبها الصواب، مما يُحتم على مجلس الشورى الإسراع في مساءلة الحكومة عن سياساتها الاجتماعية في ظل الأزمة النفطية لتقويمها وتصويبها، وإدارة المرحلة الوطنية الحرجة بالعقل الجمعي الذي يضمن مجموع المصالح وفق سلم الأهم والمهم، فليس هناك حكمة سياسية ولا وطنية من حصر طموحات المجتمع واختزالها في طموح الإبقاء على المرتبات،، وما عداها، كلها مباحات، في حين أنّه ينبغي رفع سقف الطموحات، والعمل على تحقيق الممكن من الخيارات المتاحة في ظل توسيع قاعدة تمويل النفقات من كل إيرادات الدولة، السيادية والاقتصادية، وليس السيادية فقط، حتى لا نجد أنفسنا نمس الحد الأدنى، ونحطم الخط الأحمر الوحيد، فهل سيتم إعادة الاعتبار فورًا لمنظومة البنية النفسية للمواطنة؟

ربما لا تُدرك السياسة المالية الأهمية السياسية للطبقة الوسطى ليس لبلادنا فحسب وإنما في كل الدول، لكنها تتميز في بلادنا بتجانسها وتناغمهما وتواصلها التضامني والتكافلي مع الطبقة (الفقيرة)، فالمشاركة والتشارك بينهما في الأحزان والأفراح يمنع انزلاقات وانهيارات الكيانات الأسرية وحتى الفردية، وهناك شواهد كثيرة يمكن الاستدلال بها، وسوف تشكل إحدى مقالاتنا المُقبلة، والمهمة الاجتماعية للطبقة الوسطى في حد ذاتها عظيمة، فكيف إذا ما عرفنا أنّ لها مهام أخرى كبرى كذلك، مثل كونها صمام أمان لأيّ نظام سياسي، كما تشكل بيئة لقيم التسامح والانفتاح والمصالحة، فكيف لو اختفت الطبقة الوسطى بفعل السياسات المالية؟ من هنا علينا القول صراحة، إنّ ما قامت به الدولة منذ عام 1970 في المجال الاجتماعي، قد أصبح المساس به من قبل السياسة المالية مشروعًا دون أية موانع أو ممانعة تحت طغيان الحل المالي في تغيب أو غياب الحل الاقتصادي لأزمة السيولة المالية، فثمة شعور اجتماعي متنامٍ وقد يصبح صارخاً قريبًا باستهداف السياسة المالية للأوضاع الاجتماعية، المستجد فيها، بروز توجهات لدمج عدد (العدادات) الكهربائية في المنازل، حيث تقوم الشركة المعنية بالكهرباء بزيارات للمنازل تمهيداً لجعل (عداد) واحد في كل وحدة سكنية، وهذه الخطوة لو نُفذت سوف ترفع من حدة الاحتقانات الاجتماعية وتوسيعها، وسترسخ ذلك الشعور، لأنّها تعني زيادة فاتورة الكهرباء حتى في حال عدم رفع الدعم عن الكهرباء، فكيف إذا اقترنت بالرفع؟ ستكون بالتأكيد ضربة عميقة للطبقة المتوسطة، ولماذا يستثني الطبقة (الفقيرة) ؟ لأننا نتوقع من الحكومة أن تدعم هذه الطبقة قياساً بما تلوح به هذه الأيام، وهذه إشكالية أخرى، تنم عن قصور في استيعاب التحديات المُقبلة، لأنّها ستضرب الطبقة المتوسطة، وستجبرها للنزول مضطرة من موقعها نتيجة للتداعيات أو مختارة للتكيف مع السياسات، مما سوف يجعلنا نشهد توسعاً في قائمة الحماية الحكومية، في هذه الحالة سنكون قد ضربنا منطقة صمام الأمان، وأثرنا على مسيرة التسامح والتصالح والانفتاح، ولنا تصور مستقبل العلاقة بين الطبقتين، وتأثيراتها السياسية، إن ما نبنيه اليوم سوف يكون مستقبلنا غدًا، فهل من خلال ما تقدم، تنكشف لنا ملامح الصورة المستقبلية؟ إذن، من يحمل معنا هاجس هذا الملف وبصورة عاجلة؟.