مُعاوية الرَّواحي
عندما يكون في الكتابة الشأن شأنَ وطن، يقف الكاتب في حيرة من أمره بعض الشيء؛ فالوطن ليس فكرة آنية لحظية تزول بزوال الشأن، الوطن فكرة استمرارية حضارية تمثل أمانة فعلية لأي كاتب يحمل أمانة الكلمات الثقيلة على عنقه. عندما يكون الوطن تاجا للحروف يبلع المرء جروحه، ويشكره ولو نكره، ويثبته ولو خلعه.
يجب أن أؤكد في هذا السياق، أنني لا أقول أي كلمة في سياق "إدانة"، وحاشا لله أن يكون هذا الرجل في سياق "تخوين"، إنَّ للكلمات قدرة خطيرة على نقل معنى آخر وسبب ذلك من يقرأ السطور، وما تصنع السطور من معنى خفي يبدو للرائي المتبين جليا، وللفاحص المتحقق واضحا. ولكنني فعلا كإنسان ينتمي إلى هذا الوطن ولا ينتمي إلى شيء آخر، كإنسان يحمل وشم عُمان الوطن على صدره باعتزاز وفخر، أتابع بقلق شديد سيلاً من التفكير اليائس قد بدأ في الحلول في عقول البعض؛ وبالتالي في كلامهم، وفي قلة منهم في حروفهم. اليأس خيار ذهني رخيص وكسول، لديه قدرة كبيرة على تحويل الواقع إلى مزرعة من مزارع الخوف، والخوف واليأس بينهما سفاح رخيص أيضا، ليس لأن ما يحدث يوصف بالخطأ والصواب، ولكن لأن هذه المشاعر جُعل لها أن توضع في سياقٍ نقي وطاهر، إلا أن اليأس ليس صديقا للكلمات، وليس صديقا للحروف، إنه كائن رخيص يحول الذهب إلى رماد، ويحول الرماد إلى رمدٍ يغشى عيون اللغة فيجعلها عاجزة عن الرؤية.
الوطن العُماني ليس ضعيفا، هذا ما أقف لأحاجج عنه بكل ما يمكن أن تتسع له الكلمات والصحف، والأقلام التي لم ترفع والتي يجب ألا ترفع عن الكتابة في الشؤون الوطنية. نعم هناك واقع مؤلم وحزين يقول إنَّ الخلاف بين الكتابة وبين الدولة قد وصل إلى احتدام مأسوف عليه، ولكن الدولة وهي يد الوطن الحضارية جزء من الوطن، ننتمي كلنا للوطن قبل أي شيء، وهذا ما يجعلني أقف وأحاجج بشدة وحسم: الوطن العُماني ليس ضعيفا.
... إنَّ الحاجة تكاد تكون في أمس ما تكون إلى تناسي أوجاع الماضي ولو كان ذلك من طرف واحد، أقول ما أقوله وأنا أفعل ذلك، وأضع يدي بيد الوطن -وَضَع يده معي أم لم يضع- أليس هذا أقل ما يدين به المرء لأبهى قيمة في حياته؟ إن الحاجة تتصاعد الآن إلى أن يستيقظ الكُتَّاب من كسل اليأس الرخيص، لا أقول إنهم يكتبون كتابة رخيصة، ولكنني أجد ذلك اللعين "اليأس" وهو يطوف مثل الغراب القبيح حول قادم جميل، وحاضر متماسك.
يجب أن نقفَ بدهشة أمام الذي يحدث، قال موسى الفرعي في مقال مهم للغاية فكرة مهمة للأسف تصدى لها البعض بالتخطئة والتنقيص، إن ما صنعه جلالة السلطان من تكامل للبناء المؤسسي في عُمان جعلها حقا وصدقا تتأقلم مع أزمة أخرى يمر بها الوطن المجيد، هل أقول كل شيء بخير؟! سأكون كاذبا! ولكنني أقول ليس هناك ما يدعو لليأس المرير. نعم نحمل هذا الكائن الرخيص في قلوبنا كشعراء، أو كأدباء، أو كصانعي حروف من وحي الخيال، هذا له سياق مسموح فيه اليأس إن كان صديقا للحزن لا رفيقا للخوف، ولكن بوصلة الكتابة الوطنية تعاني فعلا من أزمة. وقد آن الأوان لصياغة ميثاق شرفٍ واضح يضمن لكل طرف قدرته على أن يرى الوطن بعين صافية وفؤاد نقي. ليس من المنطقي أن تقف الكتابة الوطنية معطلة بسبب هذه الظروف التي تمر بها الكتابة ويمر به الكتاب، ولأن العُمانيين يقولون "بو يسيس بالحرب يعينها" أجزم أنني أكتب فاعلا لا قائلا، ولعلك أيها القارئ الكريم تطلع على مقال: "عُمان.. قوة الفضيلة" لتجد فيه الفكرة متجلية بصفاء أوضح.
لستُ ضد الحقائق، ولكنني ضد اليأس المسبق، اليأس يجعلها في حالة غير مُنصفة، وهذا ما يجعلنا دون أن ندرس نعمل جنودا لدى كائن قبيح، كتلة من السوداوية المقيتة، ونزعة لعداء التفاؤل. عُمان وطن جميل، متحد، وياااااه كم تعب سلطان عُمان ورجال عُمان لإكمال هذا الذي كان حلمَ يقظة ذات يوم. الحقائقُ ليست كلها مُجنزة، ليست كلها حادة وتحمل سيوفا، ليت شعري، لا يزال هناك ما يقال، وهو كثير وكثير، مئات الكتاب في عُمان يستطيعون أن يُسهموا بصناعة قاعدة موسوعية لتتبع وتقصي ما يمكن أن يبنى في هذا الوطن الجميل، وحتى هؤلاء الذين يجدون مساحة نفوسهم في نقد الوطن، من قال إنَّ الوطن لا يجب أن ينقد، ولكن يجب أن نتذكر ما تقوله اللغة: النقد هو فصل المغشوش من الأصيل من النقد، وهُنا يأتي دور بوصلة الكتابة الوطنية الصادقة، التي لا تمارس لغة الخدر الكاذب، ولا تستجيب لإغراءات اليأس الرخيص والكسول، لست عدوا لأي كاتب، ولكنني عدو لليأس الذي يفسد على الكاتب لحظته الصميمية الصادقة، من هنا أبدأ وأقول، أيها الملأ إن عُمان ليست ضعيفة، ولن تكون كذلك أبدا بإذن العلي العزيز الكريم.