أخلاقيات اللصوص

 

 

حمود الطوقي

 

أفرد التاريخ العربي، في سياقه الحكائي، العديد من القصص حول الصعاليك، وهي تسجل موقفاً نبيلا لفكرة اللصوصية؛ إذ كانوا يغيرون على القبائل القوية الغنية، ويسرقون ما طاب لهم منها، ثم يفرون؛ لتقديمها على شكل هدايا إلى القبائل الضعيفة، وهم المعروف عنهم السرعة الفائقة التي لا يجاريهم فيها الأقران.

هذه السمة الحكائية، ذات الغلاف النبلي، هي مساحة درامية لأحداث أخرى.. مساحات من السلوكيات التي تنتقل عبر الأزمنة، متصلة بسيادة ثقافة اللصوصية، في فضائلها ومساوئها، في جدواها ومناخاتها التي تجد العديد من أشكال القبول، خاصة لدى الفقراء الذين يستفيدون من تلك السرقات، على اعتبار أن هؤلاء الصعاليك لا يستفيدون من تلك السرقات، بل يفيدون غيرهم.

وفي سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأت عجلة النهضة في الدوران، وأذن منادي الدخول في مرحلة البناء الحديثة، كان لدينا مسؤولون، اختارتهم الحكومة ليديروا الشأن العام، كل في مجال اختصاصه ومسؤوليته، معنيون بتحقيق ما تخطط له الحكومة من مناقصات ومشاريع وأشكال تنمية حديثة، لكن للأسف بعض من هؤلاء كانوا يتمتعون بأخلاقيات اللصوص، ولكنهم على منحى مختلف عما كان عليه الصعاليك في مراحلهم المبكرة؛ فالصعلوك لم يكن لديه منصب، وليس لديه وزارة، ولا يتمتع بمسؤولية مديرية أو دائرة، ولم يكن لديه قسم وموظفون، وليس لديه حضور اجتماعي، بل هو فرد رفض ضعف قبيلته، فقرر الانتقام، بسرقة القوي وإطعام الضعيف، ولم يعمر جيبه بالمال والترف.

عدد من المسؤولين في الحكومة لم يكونوا بتلك الطريقة، فقد طوروا "أخلاقيات اللصوصية"؛ لتعود عليهم بالنفع، ولكنه نفع ذاتي وليس من أجل الفقراء كما هو شأن الصعاليك، فقد وضعوا في الحسبان أن "المناقصات والمشاريع" هي مفتاح جنة الثراء، ولا بد من سرقتها بطريقة ما، سرقة لا تترك أثرا، ولكن من خلال التأكيد والمتابعة على المناقصات التي تتبعهم.

الطرقات المسفلتة، والأبنية الحديثة، والبنايات المختلفة الأحجام، والمواقع التي يستفيد منها العموم، كانت تخضع لمواصفات خاصة في التنفيذ، وهي ذاتها التي وردت في المخططات -على الرغم من تحقق السرقة "فيدني وأفيدك"- فكانت النتائج ذات إبهار واستمرارية في علامات الجودة، وكل شيء يمر بسلام؛ فالمدارس قوية البنيان، ومؤسسات الدولة ثابتة لم تزحزحها الرياح ولم تخترقها الأمطار، والأسقف لم ترشح بما علق بها من عابر الغمام، والطرقات ظلت متماسكة عقودا من دون صيانات دورية تذكر، وهذا كله يعكس نجاح مخططات الدولة وهندستها، ونجاح المسؤول في عدم تركه غنيمته من ناحية، وعدم تركه أثرا صريحا "عينك عينك" تلفت الأنظار إليه.

تمر السنوات، والأخلاقيات كما هي، إلى أن حصلت سنة الحياة، وهي التطور والتغيير، فبعد أن كان أوائل اللصوص في الحكومة يسرقون بوحي من الضمير، عن طريق اعتماد المواصفات التنموية وتحقيقها بحذافيرها، شعر اللصوص الجدد بالرغبة في التغيير، والاستفادة من حس الأمان "من أمن العقوبة أساء الأدب"؛ من خلال المجاهرة بالسرقة، عن طريق "نٓخل" موازنة المناقصات، والإبقاء على اليسير من ميزانية المشاريع، أو عدم مراقبة العمل الذي تقوم بتنفيذه الشركات التي رست عليها المناقصات كما ينبغي ويجب؛ فانعكس ذلك على المنتٓج، فصارت الجودة رديئة، وخطط "الحٓلب/السرقة" ممتدة، بداية من التنفيذ، وصولا إلى الصيانات الدورية؛ لذلك انكشف الغطاء، ولم يحتج إلى "بٓصر حديد" كي ينكشف الحجاب، فما عاد هناك حجاب، ولم تبقٓ أخلاقيات اللصوص على جمالها المعهود، الذي راعى الذمة والضمير.