البرامج التدريبية والعائد منها

 

فتحية الصقري

لا يختلف اثنان على أهمية وجود برامج تدريبية في خطط المؤسسات وإستراتيجياتها للتطوير والتأهيل، ولدعم مهارات موظّفيها وصقلها، واكتشاف مواهبهم وميولهم التي تخدم العمل في مجالاته المختلفة، وأضع خطاً تحت مواهبهم وميولهم؛ لأنّها ورقة المؤسسة الرابحة، لرفع مستوى الأداء الوظيفي، إذ لا ينحصر عمل الموظف في حدود مسمَّاه الوظيفي، بل يدخل في أعمال أخرى، يجد هو نفسه فيها، ودون ضغط من أحد، مساحة أكبر، يستطيع من خلالها تقديم أفضل ما لديه، والعمل بنشاط أعلى، وقابلية مدفوعة برضاه النفسي لما يقوم به. لكن ما الذي يجعل من هذه البرامج ديكورًا سنويًا، يجيء ويذهب في أغلب الأحيان، دون أدنى فائدة؟! ما الذي يجعلها لا تتخطّى عتبة النمطي والشكلي؟! ما الذي يجعلها مُجرَّد تقرير باهت ومُعاد آلاف المرَّات، تقرير مزدحم بالمبالغة والسهو والإخفاقات والبطولات الزائفة؟! ما الذي يجعلها على هذا النحو من الاستسهال؛ لتصبح شكلاً مجوَّفًا بلا جوهر، وليست أكثر من تقرير ورقي مُنمَّق، وموضوع بعناية في الأدراج، أو محفوظ في جهاز كمبيوتر، مثل إناء زجاجي، خارجُه مزخرفٌ ومنقوش، وداخلُه فارغ؟! هناك من يعتقد أنّ البرامج التدريبية ليست سوى نُزهة مدفوعة التكاليف، تستمر لعدَّة أيام، توفر للمتدربين وجبة مجانية، وساعات دوام أقلّ، وصورًا تذكارية. هناك من يعتقد أنّه يُمكن اختيار المتدربين عشوائيًا للمشاركة، وهذا ما يحدث بالضبط، إذ يجري اختيار من ليس لهم أيُّ رابط، لا من قريب، ولا من بعيد، بمادة التدريب المطروحة، لا من حيث التخصص، ولا من حيث الميول الإبداعية، والمهارات والمواهب التي تخدم العمل؛ ليشغلوا مقعدًا يستحقُّه شخص آخر.

البرامج التدريبية تستهدف الكادر البشري؛ فمن هي هذه الكوادر؟ وما دورها؟ وما الذي تطلبه؟ وما الذي يُطلَب منها؟ أليست هي تلك الطاقة البشرية التي تُساعد في التنمية والتَّقدم؟ لماذا ينظر منسِّق التدريب، أو المسؤول عن تنظيم البرنامج للموظف ككائن مسلوب الإرادة، كائن معاق فكريًا، وغير قادر على اختيار ما يناسب مهاراته وقدراته ومواهبه وميوله؟! لماذا في كثير من الأحيان يجري إبلاغه، قبل أيام قليلة، بأنَّ اسمه يوجد ضمن كشف برنامج تدريبي، وعليه الذهاب والمشاركة؟! لماذا لا يُعلن عن البرامج بشفافية؟! لماذا لا يكون للموظف حقُّ الاختيار؟! لماذا هذا التعامل السِّري غير المبرَّر، كمن يُخطط لنفسه مشروعًا استثماريًا لا يعني أحدًا سواه؟! في حين أنّ الأمر برمَّته لا يمكن أن ينجح، دون مشاركة، ودون شفافية ووضوح، أليس اختيار هذه البرامج يأتي وفق احتياجات المؤسسة؟ وهل المؤسسة يمكن أن تقوم، وتتشكَّل، وتنتج دون كوادر بشرية؟ حسنًا عندما نتحدث عن العائد من التدريب على من يتكئ هذا العائد ليخرج للعلن؟ وماذا لو كان عائدا إيجابيًا مئة بالمئة؟ ألن يكون ذلك لصالح العمل الذي هو بحاجة ماسة لنقلة ضرورية، لتنقية هوائه من الشوائب، ولتغذيته، وحقن عروقه بالدماء الجديدة؟

آن الأوان لسحب الـ (ريموت كنترول) من سلطة الواحد. آن الأوان لإخراجه من قبضة الأنانية والأهواء الشخصية. آن الأوان للالتفات والتحقُّق والمتابعة والمسؤولية. آن الأوان لإخراج كلّ ما هو محبوس في كيس البيروقراطية، وتنظيفه وتأهيله من جديد. آن الأوان أن نطلق صراح الجهد الجماعي لبناء أساس قوي متماسك، لتكون مصلحة العمل هي الهدف الأول. آن الأوان ليمسك الجادُّون بأيدي بعضهم، والسير إلى الأمام بثقة. آن الأوان لطرد كل ما من شأنه أن يُضعف، أو يؤجِّل، أو يطفئ، أو يؤخِّر. آن الأوان لإضافة رقم عشرة مع الصفر الذي يرنُّ، منذ عقود، مثل عملة معدنية هوت على أرضية من رخام. 

إننا بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، للوقوف بجدية، وفلترة العادات القديمة، بحاجة للتكاتف والعمل برؤية أكثر وضوحًا، يُشارك فيها الجميع، بحاجة لإستراتيجية لا تُسقط الورقة الرابحة من يدها، بحاجة لفصل الشأن الشخصي عن العمل، بحاجة لعيون دقيقة صارمة جادّة صريحة فنانة حرة ثاقبة مستعدة، تفرِق بين الخطأ والصواب، بين الجيد والسيئ، بين الضار والنافع، بين القديم والحديث، بين الحبر والرصاص، وبين الجدوى واللاجدوى، بحاجة لأيد توَّاقة غنية كريمة، إن لمست اليابس اخضرّ، وإن امتدت لصخرة صلدة سال منها الماء؛ خارجها يلمع مثل داخلها، بحرها حيّ، وأصابعها عشرة مراكب. بحاجة إليك أيها الإنسان الحي، أيها الإنسان الواعي، أيها الإنسان البسيط المُجدّ المتفتِّح الذهن، المسلَّح بالمعرفة؛ لجعل حياتنا المقبلة ممكنة.