التدريب والتنمية... الوسيلة والغاية

أحمد بن محمد الغافري

يُمثّل البحث عما يمكن إنجازه لتحقيق الرفاه المستدام للمواطن أحد الأسئلة المحورية لعملية التنمية، وتسخّر الحكومات من حول العالم جهودها لاستمرارية عجلة التنمية وتطوير اقتصاداتها عبر مختلف البرامج والمبادرات كجزء من بحثها الدائم عن الإجابة على هذا التساؤل الملح؛ وفي خضمّ هذه الجهود والمحاولات لا يشكّ منظرو الأنشطة التنموية وممارسوها في أنّ زيادة معدلات الإنتاجية الفردية والمؤسسية تسهم بأشكال مختلفة في تعزيز نمو الاقتصاد وازدهاره. لذا تتوخّى الاستثمارات في قطاع التدريب تحقيق الزيادة في الإنتاجية والقدرة على التفاعل الإيجابي والاندماج في عملية التنمية. فكيف يُمكن بناء اقتصاد متين ومستدام بدون موارد بشرية تمتلك الرغبة والقدرة على الإسهام والابتكار وقيادة عمليات التحول وإنجاز التطلعات الوطنية؟

وسواء كنا نتحدث عن التحول التقني وتوظيف البيانات الضخمة أو تحسين الحياة في المناطق الريفية أو تمكين المجتمعات المحلية بطريقة مستدامة أو التنويع الاقتصادي، يبقى جليًّا أنّ التعليم والتدريب هما الطريقان اللذان أسسا لكثير من قصص النجاح المُلهمة في مختلف مفاصل الحياة عبر العالم. ويتّضح للمتابع التحوّل الذي شهدته دول عدّة -من الاقتصاد التقليدي القائم على استغلال المواد الخام إلى الاقتصاد القائم على المعرفة مرورًا بمراحل التصنيع-إذ واكبته استثمارات طائلة في الإنسان مخططة بعناية.

ولا تؤكّد قدرة منصة مثل (لينكد إن) – على سبيل المثال- على تحقيق قيمة سوقية عالية تدفع شركة مايكروسوفت على الإقدام على شرائها بأكثر من 26 مليار دولار على أهمية الشبكات المهنية فحسب، وإنّما تظهر بجلاء كذلك كيف أنّ التنافس المتزايد على الموارد البشرية المحترفة وطرق الوصول إليها يأخذ أشكالاً مختلفة. وإذا كنّا قد شهدنا خلال العقدين الماضيين سرعة وسهولة في انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات حول العالم، فإننا نشهد اليوم سرعة وسهولة في انتقال رأس المال البشري حول العالم، واهتمامًا متزايدًا في إدارة المواهب بما تشمله من استقطاب وتطوير وإشراك وتمكين ورعاية. حتى في أوقات الكساد والأزمات الاقتصادية، عوّل كثير من الاقتصادات والمؤسسات الرائدة من أجل الإفلات من قبضة الأزمة، على الاستثمار في المواهب والأفكار والمهارات وعلى تمكين أصحاب الطاقات الكامنة من ترجمة شغفهم إلى خدمات أو مُنتجات عبر برامج التدريب والتوجيه والإرشاد.

كما تُساعد القوى العاملة المدربة تدريبًا نوعيًا على تعزيز جاذبيّة مناخ الاستثمار وبالتالي تستقطب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية، فتشكّل بالتالي إحدى المزايا التنافسية لاقتصاد أيّ بلد، سواء تحدثنا عن المهارات الفنية أو المهارات السلوكية بما تشمله من أخلاقيات عمل ومهارات للتواصل وغيرها. لذا، ليس من قبيل المبالغة القول بأنّ مستوى تنافسية القوى العاملة يدلّ على الفرص التي يحملها اقتصاد أيّ دولة أو التحديات التي سيُواجهها. ويتضح لنا نحن في عُمان أكثر فأكثر أنّ الاعتماد على تنافسية القوى العاملة الوطنية المدربة بمعايير احترافية عالية أفضل بكثير من النتائج التي يُمكن أن تحققها التشريعات الملزمة بحصص أو نسب للتوظيف يمكن التحايل عليها بشكل أو بآخر. إذ لا يقتصر أثر التدريب على زيادة معدلات الإنتاجية، بل يتعداه إلى الدفع قدمًا بالتحول المجتمعي الإيجابي الذي لا غنى عنه لدعم عمليات النهضة والتطوير والتنمية في بلادنا، وذلك عبر إكساب المعارف الحديثة والمهارات اللازمة وتشكيل التوجهات البناءة وخصوصا لدى الجيل الجديد من الملتحقين بسوق العمل. ولعلنا في هذا المقام نتذكر أنّ أولويات البناء في فلسفة جلالة السُّلطان – أعزه الله-كانت نشر مظلة التعليم والتدريب، ورفع الحظر عن تعليم الفتاة العُمانية، وما تزال كلمات جلالته المملوءة إيمانًا بمركزية التعليم في نهوض المجتمع تتردد على الأسماع (سنُعلِّم أبنائنا ولو تحت ظل الشجر).

ومع تأكيد الدور المحوري الذي يمكن أن يُسهم به التدريب، ينبغي التنبه إلى أن التوجهات الحديثة للتطوير والتعلم تشمل حزمة أدوات أكثر اتساعاً من التدريب التقليدي أثبتت كفاءتها وقدرتها على تعظيم العائد وتعزيز فرص تطبيق التعلم الجديد في بيئة العمل أو في أيّ سياق آخر. فالتعلم التجريبي والإرشاد المهني الفردي والجماعي والتدريب على رأس العمل والمشروعات التطبيقية والتلمذة المهنية وغيرها من الأشكال يمكن أن تشكل مصادر لاستدامة مخرجات التطوير والتعلم ومتابعة أثرها في عمليات التنمية.

بإيجاز لا يمكن حصر المجالات التي يُمكن للتدريب النوعي أن يسهم في إحداث الفرق الذي تستهدفه جهود التنمية في السلطنة فيها. فسواء كان تركيزنا على الابتكار في القطاع الحكومي أو تأسيس ثقافة داعمة للابتكار في القطاعين الحكومي والخاص، أو على توظيف تطبيقات إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، أو كنّا نتحدث عن نطاق أكثر تحديدًا مثل توظيف نظرية الذكاءات المتعددة في غرفة صفية، أو دعم نجاح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة فحاجتنا للتدريب مستمرة.

باحث في قضايا القيادة والتطوير المؤسسي