حاتم الطائي
بعدما تم تدمير دولةٌ ضاربة في جذور التاريخ بحجم العراق، على وقع غزوٍ غاشمٍ تُثبت الأيام تلو الأخرى أنه لم يستند إلى أية حقائق أو مُبرِّرات، بل هي غطرسة وعربدة غربية أمريكية.. وبعدما اصطلتْ المنطقة كلها بنيران الغدر والإرهاب على يدِ برابرة الشرِّ والفتنة، واستفحلت قوى الشر عاثيةً في الأرض فسادًا وإفسادًا، وبعدما اعترفَ قادة الولايات المتحدة الأمريكية منذ فترةٍ -ممن قادوا عمليات غزو العراق واحتلاله- بأخطائهم وبأنَّ الأسباب التي انطلقوا منها واعتمدوا عليها في إقناع العالم لم تكن موجودة أصلا، يخرج علينا الآن تقرير السير جون شيلكوت في مليونين وستمائة ألف كلمة، مُعترفاً بعدم عدالة الحرب على العراق، وأنَّ صدام حسين لم يكن يُمثل تهديدًا لا لإنجلترا ولا لأمريكا، وأنَّ المعلومات التى بَنَى عليها رئيس الوزراء السابق توني بلير قراره بخوض الحرب كانت مغلوطة، وإنما سار خلف صديقه بوش الابن كـ"الأعمى"، وخُرُوج بلير علينا فى مؤتمر صحفى مُنافحا فيه عن موقفه، ليسقط في "هوَّة الفشل"، مُخفقا فى إقناع الصحفيين والإعلاميين بوجهة نظره، حيث بدا وكأنه يريد الاعتراف بالخطأ الذى ارتكبه، إلا أنه لم يقدم سوى اعتذارٍ واهٍ لأسر الجنود البريطانيين الذين لقوا حتفهم فى "غزو العراق"، دون أن ينطق ببنت شفة بأي كلمة اعتذار لدولة تدهورت وشعب احترق كمدًا، ومنطقة بأسرها تقف اليوم على مرجل الإرهاب المشتعل.
فلا يختلف اثنان اليوم على أنَّه لولا هذا الغزو "المشؤوم" للعراق وتبعاته السيئة، لما وَجَدتْ "داعش" -التي تمثل ذروة الإرهاب والتطرف في عالمنا العربي- لنفسها مَوْطَئ قدم، ولما شممنا رائحة الموت تفوح من هنا وهناك على وقع تفجيرات انتحارية يقوم بها أصحاب العقول والرؤى والمعتقدات "العفنة" التي لا تمُتُّ لإسلامنا الحنيف ولا لأي من الشرائع السماوية السمحاء بأية صلة.. فنيران الغدر التي تلتهم دولا وتقتل مواطنين أبرياء، لا تبعث برسالة أقوى من أنَّ تنظيمًا كهذا لم يكن بمقدوره التمدُّد سرًّا وجهرًا في العديد من دول العالم سوى بخلاياه النائمة، التي غذتها أمثال تلك الحرب الشعواء على العراق بهدف تفتيته والإتيان على البقية الباقية منه.
وبالعودة إلى "تقرير شيلكوت" -الذي ظَهَر متأخرًا للأسف الشديد بعد أن تغيَّرت مياه كثيرة في النهر، وانهارتْ دولة ولحقت بها أُخَر، فيما تنظر ثالثة نفس المصير- يبقى المثير ليس فقط للتساؤلات، وإنما الإحساس بالغبن بأنَّ بلير تحدَّث بعيون دامعة عن 170 جنديا بريطانيا قتلوا في تلك العمليات، بينما تجاهل تماما المليون ونصف المليون عراقي من الأبرياء والعزل (أطفالًا ونساءً وكبار السن والشباب) الذين راحوا ضحية الغزو والاحتلال، والآلاف الذين راحوا أيضا نتيجة تداعيات ما بعد الغزو إلى يومنا هذا. والأكثر إثارة للغضب والتساؤلات أنَّ بلير يغتصب المنطق ليؤكد أنْ لا علاقة بين الغزو والاحتلال وبين التداعيات التي توالتْ، وعلى رأسها الإرهاب الذي دمَّر تقريبا أقدم وأهم حضارة في التاريخ، وأهلك عشرات الآلاف من البشر، بينما شرَّد عشرات الملايين الآخرين.
إلا أننا سنكون منطقيين أكثر منه، لنضع أيدينا على الجُرح، مؤكدين على أنَّ توني بلير لا يختلف كثيرا عن القادة الأمريكيين الحلفاء، ويبدو أنَّه استعار منطقا مقلوبا لا لكي يعترف بالجريمة التي تمت من خلف ظهر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ولا لكي يقدِّم الثمن انطلاقا من مسؤوليته المباشرة مع حلفائه الأمريكيين، وإنما لكي يحاول إثارة نوع من الجدل والدجل في آن واحد، ويحوِّل اتجاه البوصلة إلى تفاصيل شديدة السذاجة والسطحية بهدف غسل الضمائر والأيادي من جريمة بحق العراق والعراقيين. لدرجة أنه ذهب إلى المقارنة والمفاضلة بين عراق صدام حسين، وعراق الغزو والاحتلال والإرهاب والطائفية.
إنَّ منطق توني بلير يضع الرأي العام العراقي، والإنسان العراقي البسيط، أمام خيارات شحيحة وظالمة وغير منطقية: إما صدَّام أو الديمقراطية، إما نظام البعث أو نظام جاء على الدبابات الأنجلوساكسونية، إما نحن أو الإرهاب.. وفي نهاية المطاف يكتشف العراقيون أن لا صدام موجود ولا ديمقراطية، وأن لا "بعث" موجود ولا أنظمة جاءت على الدبابات وحاملات الطائرات، وأن الإرهاب والتشرد والنزوح والهجرة والفقر تزدهر كلها في ظل هذا الوضع المؤسف!
لقد عرَّى تقرير اللجنة المستقلة -التي حقَّقت في ظروف التورط البريطاني في حرب العراق منذ سبع سنوات- رئيس الوزراء السابق توني بلير، وكشف مَدَى تورطه في حرب كانت لها نتائج كارثية على العراق نفسه، وعلى المنطقة والعالم بأسره، خصوصا في ظلِّ عجز أمريكي وبريطاني عن فهم ما هو العراق! وما انعكاسات الحرب على بلد بهذا الحجم وعلى التوازن الإقليمي!.. ويبقى أنْ ننتظر طريقة تعامل الدول العربية مع التقرير، وأحسب أنَّ جامعة الدول العربية مُطالبة بحملة دبلوماسية واسعة تستخدم فيها هذا التقرير للضغط على بريطانيا لاتخاذ مواقف أكثر مساندة للقضايا العربية، وأنَّ العراق يملك الآن عصا سحرية للمطالبة بتعويضات كبيرة عن الأضرار التى لحقت بالشعب العراقى وسرقة ثرواته، جراء هذا المخطط المدروس بعناية فائقة بهدف تدميره بشكل ممنهج وإدخال المنطقة في نفق مظلم من العنف والإرهاب.
... إنَّ اختراق النظام العربي بهذه الصورة المُرعِبَة لم يكن مُمكنا سوى بتواطؤ البعض ممن يعانون اليوم من نار الإرهاب، ليبقى السؤال: هل من الممكن في ظل اضطراب المشهد السياسي البريطاني وحالة السخط التي يمرُّ بها أن تتم محاكمة بلير على ما حدث فى العراق استناداً لتقرير "جون شيلكوت"؟ بالطبع الإجابة ستظل مفتوحة، لكنها تتطلب ترقبا حذرا لما ستفصح عنه الأيام المقبلة من ردود فعل بريطانية ودولية وعربية بشأن التقرير؛ للتعرف على الطريق الذى ستسير فيه كافة السيناريوهات المحتملة!