البلسم الشافي (الجزء الرابع) - 15

 

 

حَمَد الحوسني*

أيُّها الفضلاء، عرضنا خلال مجموعة من اللقاءات الماضية ما ذكره بعض المفسرين حول قول الله تبارك وتعالى: "إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (الإنسان:29-31)؛ لإظهار الرابط بين مشيئة البشر وبين المشيئة الإلهية، وما زلنا نواصل ذلك.

ويقول أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي -المعروف بالخازن- في تفسيره "باب التأويل في معاني التنزيل" (بتصرف): "إنَّ هذه -أي السورة- تذكرة -أي تذكير وعظة-، فمن شاء اتخذ -أي لنفسه في الدنيا- إلى ربه سبيلاً -أي وسيلة بالطاعة،  والتقرب إليه- وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون: اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى، وهو إلى اختيار العبد ومشيئته، قال بعض أهل العلم: ويرد عليهم قوله -عز وجل- في سياق الآية: "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأن الأمر إليه، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد؛ فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه "إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا" أي بأحوال خلقه وما يكون منهم "حَكِيمًا" أي حيث خلقهم مع علمه بهم، "يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ" أي في دينه، وقيل: في جنته، فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من الله تعالى، وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جل جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق، "وَالظَّالِمِينَ" يعني المشركين، "أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" أي مؤلماً، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد سبق أن ذكرنا أن كل عاص لله تعالى -سواء كان بالشرك أو بما هو دونه من الكبائر أو صغائر الذنوب التي يصر عليها أو يستصغرها ويستخف بها- يعتبر ظالما ما لم يتب إلى الله سبحانه وتعالى منها؛ فيستحق بسبب ذلك العذاب الأليم والعياذ بالله من ذلك ومن تاب تاب الله عليه.

ويقول محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره "محاسن التأويل": "القول في تأويل قوله تعالى: "إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً": "إِنَّ هَذِهِ" أي: السورة، أو الآيات القريبة "تَذْكِرَةٌ"، أي: عظة لمن اعتبر واتعظ، "فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً" أي: بالطاعة الموصلة لقربه، وإيصال السبيل للمقاصد، فهو تمثيل.

القول في تأويل قوله تعالى: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمًا. يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً".

"وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ".. قال ابن جرير: أي: وما تشاؤون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم؛ لأنَّ الأمر إليه لا إليكم، أي: لأن ما لم يشأ الله وقوعه من العبد، لا يقع من العبد، وما شاء منه وقوعه، وقع. وهو رديف: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هذا تأويل السلف. وقالت المعتزلة: أي: وما تشاؤون الطاعة إلا أن يشاء الله بقسرهم عليها. والمسألة مبسوطة في الكلام. وقد لخصناها في "شرح لقطة العجلان" فارجع إليه.

"إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً".. أي: بأحوالهم وما يكون منهم، "حَكِيماً" أي: في تدبيره وصنعه وأمره.

"يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ".. قال أبو السعود: بيان لإحكام مشيئته المترتبة على علمه وحكمته، أي: يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى؛ حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة.

"وَالظَّالِمِينَ" وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر "أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً" يعني عذاب النار... وقاناه الله بمنه وكرمه، نسأل الله السلامة والعفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.

 

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم

تعليق عبر الفيس بوك