لماذا ثرواتنا فوق عقولنا؟؟

 

 

د.عبد الله عبدالرزاق باحجاج

سلطنة عمان، بلاد الثروات العديدة والمتنوعة، سياحية بامتياز، زراعية بامتياز، معدنية واعدة، غازية واعدة، مواني مطلة على البحار المفتوحة البعيدة عن مناطق النزاع والتوترات في الخليج، ومجتمع متسامح ومتعايش مع الآخر، وسلطة سياسية واعية.. لم تصنع أعداء في الداخل ولا الخارج، فكيف لم نستغل إلا مصدر واحد وقابل للنضوب وهو النفط؟ كيف لم نصنع اقتصاد متعدد المصادر رغم أنّ التنوع الاقتصادي سياسة ترفعها البلاد منذ أول خطة خمسية عام 1975؟ هل فعلا ثرواتنا فوق العقول؟ ولماذا؟ هل نرجع السبب إلى مصانع النخب الوزارية؟ ربما الأهم الآن، طرح التساؤل التالي، هل لا يزال الوضع قائما؟ تساؤلات تشخيص أسباب الانتكاسة المالية الناجمة عن الأزمة النفطية، كما تفتح لنا الآفاق الذهنية للمسيرة الاقتصادية المستقبلية، من حيث، هل يتم استدراك الخطأ التاريخي - الاعتماد على النفط - أم لا نزال في متونه؟

إنّ الانتكاسة المالية ما كان ينبغي أن تحدث في بلادنا، وهي تتمتع بتلك الثروات الهائلة، وربما علينا الغوص في صراع المصالح الخاصة - آنذاك - فهذه المصالح هي التي تقف وراء علميات التضمير والتهجر - تشخيص سماحة المفتي - وإقصاء وتهميش الكفاءات.. فطغيان العقل النفعي الخاص قد اختار الطريق الأسهل والمضمون والسريع لثرائه، وهو طريق النفط والغاز، وقد أوصلهم هذا الطريق إلى مبتغاهم وبسرعة وبصورة مضمونة، بعكس الطرق الأخرى كالزراعة والأسماك والثروة الحيوانية والسياحة.. إلخ التي تتطلب استثمارا طويل النفس نسبيا، ولن تكون الاستفادة النفعية الخاصة منها كالعوائد النفطية، لذلك ركزت عقول المراحل السابقة على النفط والغاز ومنتجاتهما المباشرة، وقد نجحت بامتياز رغم علمها بخطورة اعتماد البلاد على مصدر واحد، وبالذات النفط، وهنا لابد من طرح التساؤل التالي للزوم التقويم الصحيح، هو، هل ودعنا مرحلة تلك العقول؟ الإشكالية تظل قائمة وبنفس العمق الذي ولد الفشل، فمرحلة الوعي والعلم الراهنة لم تضع عجلة التنوّع الاقتصادي في مساره الصحيح حتى الآن، ولو استمررنا عشرين سنة مقبلة على نفس المسار، فلن نصنع لبلادنا اقتصادًا متعدد المصادر دون النفط، لماذا؟ لبقاء فكر العقول رغم رحيل أصحابها، ربما لاستمرار النخب التي زرعتها في مفاصل رئيسية.. إلخ ومهما طغت الأزمة المالية على موازنة بلادنا، فإنّ أزمتنا الحقيقية تكمن في إدارة ثرواتنا، وما عداها من أزمات توابع أو ارتدادات لها، فما الحل؟ هل ينبغي التركيز على حل الأزمات الفرعية ونترك الأزمة الأساسية ناجمة؟

هكذا يبدو لنا الوضع الحالي أو الغالب في بلادنا، هناك حالة هستيرية جنونية على الحل المالي، يقابلها جنون مماثل في توقعات بعض الخبراء وشطحات فكرية من قبل رجال الاقتصاد، لا يقبلها زماننا ولا مكاننا، فهم يغردون في عالم أخر بتأثيرات صندوق النقد الدولي، وحتى في حالة تغليب الحل المالي، فينبغي أن لا يكون على حساب التوازنات الاجتماعية ولا فقدان القوة الشرائية التي يعتمد عليها الاقتصاد العماني، كما يقترح أحدهم بخفض المرتبات ما بين (15%-20%) ولا على حساب سياسة التنويع الاقتصادي، وإنما الحل يكمن في الثنائية المتزامنة والمتلازمة، أي تزامن الحلين، حل أزمة التنوع الاقتصادي، وهى الأساسية، وحل الأزمة المالية، وهي الفرعية، وهي كذلك تشكل أولوية، وذلك حتى لا تنقلب علينا معادلة الأهم والمهم، ونجد أنفسنا نغرق الوقت بالحل المالي فقط، (نكرر) لا يجب أن تشغلنا الأزمة المالية رغم ضغوطاتها الحادة عن حل أزمة التنوع الاقتصادي، ولا عن الشروط السياسية الحاكمة لها والتي تحدثنا عنها في عدة مقالات سابقة، ونقترح تشكيل لجنة استراتيجية للتنوع الاقتصادي إما أن تكون مستقلة على غرار هيئة حماية المستهلك الناجحة جدا أو تكون مرتبطة بأعلى سلطة سياسية في البلاد حتى لا نجد أنفسنا بعد ثلاث أو خمس سنوات في المكان الذي لا نزال نبرح فيه، ونتفاجأ بتداعيات جمود مسار تنوعنا الاقتصادي، وتظهر لنا إشكالية أخرى شبيهة بإشكاليّة اعتمادنا المفرط على النفط، وهي إشكالية الاعتماد على الضرائب والرسوم رغم أنّ هذه الإشكالية ستظهر سريعا.

فدول كبيرة وأقدم منا في الأنظمة الضريبية، تعاني من إشكاليات الجباية والتهرب الضريبي، فكيف ببلادنا؟ كما نقترح تشكيل فريق مالي متخصص وعال في المهنية والخبرات الاجتماعية والسياسية، يقوم بمراجعة النظام الضريبي في البلاد، بحيث يمكن من خلاله رفع نسبة إيراداته في الميزانية العامة للدولة حسب قدرات وأولويات القادرين على تحمل الضريبة في ضوء ما تم الكشف عنه مؤخرًا عن خروج ثروات أغنياء البلاد للخارج خلال السنتين الماضيتين، وهذا الخروج قد تم الكشف عنه مؤخرا مصدرا رسمي ولديه اطلاع عميق بهذا الملف، وإذا ثرواتهم قد خرجت، فمصالحهم الاقتصادية لا تزال داخل الوطن، وهذا يقتضي اشراكهم أو حملهم بقوة القانون على التضامن مع المجتمع، ويقدم الحل المالي على أنه مؤقت لمدة ثلاث إلى خمس سنوات، عقبها تتم مراجعة النظام الضريبي للتخفيف من الأوعية الضريبة حسبما تقتضيه المصلحة الوطنية.

كما ينبغي أن يتم تشكيل اللجنة الاستراتيجية من الكفاءات الوطنية لمتابعة تحقيق برامج الرؤية وتنفيذ أهدافها في وقتها المحدد، وينبغي أن تدعم هذه اللجنة بمركز ومكاتب ولجان محددة لقياس الأداء والانجاز وإدارة المشاريع، على أن يتزامن مع مقترح تشكيل اللجنة الاستراتيجية، قيام الوزراء وبالذات الذين يشرفون على القطاعات المحددة في الرؤية وهي قطاعات الزراعة والأسماك والسياحة والصناعة والتعدين واللوجستيات بصورة علنية وشفافة تقديم خططهم وبرامجهم التنفيذية وفق الجداول الزمنية لتحويل تلك القطاعات إلى مصادر بديلة بنسب مئوية سنوية مع تبينها نظام الحوكمة للزوم الانضباط في مسارات محددة لإنجاز الرؤية، فذلك سيعزز مبدأ المسؤولية والمساءلة ويرفع من مستويات الشفافية والنزاهة.

ومثل تلكم الخطوات المقترحة، ستدلل على جدية تنفيذ الرؤية 2040، وإلا، فإين بوادر هذه الجدية؟ ومهما سمعنا عن جهود في قطاع اللوجستيات والصناعة، سيظل يغلب عليها الغموض، وقد يكون وراءها ردة فعل، لا فعل مبرمج وممنهج، فكيف ببقية القطاعات التي  لم تتحرك قيد أنملة، المطلوب منهم، الإعلان عن برنامج تنفيذي سنوي لكل فقرة أو هدف داخل كل قطاع من القطاعات الخمس سالفة الذكر، موضحين فيه حجم مساهمته المتوقعة في موازنة الدولة سنويًا، بدلا من ضخ أموال ملياريّة في مشاريع ليس لها انعكاس مجزي على الموازنة ولا انعكاسات اجتماعية، فما هي مثلا مساهمة ميناء صلالة للحاويات في موازنة الدولة حتى نصرف له بين كل فترة وأخرى أموالا طائلة لإقامة رصيف جديد؟ وكذلك الحال بالنسبة للدقم وصحار...إلخ فمثل هذه المشاريع الضخمة التي تخدم الاقتصاد العالمي والقطاع اللوجستي المتعدد الأغراض في المنطقة ينبغي أن تكون مساهماته أكبر من مساهمته الحالية، ولا يعقل اقتطاع الأموال من لقمة وأحلام المواطن البسيط، ونترك هذه القطاعات التي تصرف عليها موازنة الدولة منذ عقود، أما آن الأوان لهذه القطاعات أن تتحول إلى مصدر دخل اقتصادي فورًا أو على الأقل في الأجل القريب، والقريب ينبغي أن يكون أقصى حد خمس سنوات وليس طويل الأجل كما تطرحه الرؤية، والمدى المتوسط إحدى بوادر الجدية الغائبة كذلك، وتلكم الشفافية هي التي ستكسب الرضا الاجتماعي، وستقضي على الشائعات، لأنّها تجعل كل المواطنين أعضاء في مجلس شوري عام مفتوح.. فهل أطرنا وكوادرنا جاهزة ومؤهلة لمرحلة الشفافية..؟

وللمقال تتمة..