بريطانيا.. نضال ضد العولمة

التضارب والتداخل في أزمة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، يعكسان حالة من تآكل ثقة الرأي العام التي أصابتْ دولَ العالم من حَوْلنا، كما يكشفان إلى أيِّ درجة شوَّهت "العولمة" وَجْه النُّظم الحاكمة، وقوَّضتْ قدرات رؤوسها على القيادة، في مَنْحَى يقود إلى ظاهرة يُمكن الاصطلاح عليه بـ"أزمة قيادة" عالمية لا يوجد لها حل سهل أو سريع.

حيث تمنحنا أزمة الخروج البريطاني الكثيرَ من التأمُّل في تناقضات الصراع الدولي؛ كي نفهمه بشكل أوسع، ونحلِّل بواعثه والقوى التي تديره؛ فهو "صراع عولمي" بدأ بعد انهيار معسكر الاتحاد السوفييتي في العام 1991، والذي تصدَّرت على أثره الولايات المتحدة الأمريكية سُدَّة الهيمنة على العالم، وفرضتْ "العولمة" كنمط من أنماط النظام الرأسمالي؛ بهدف إلغاء الحدود وتحرير الأسواق العالمية (ضمن التوقيع على اتفاقية التجارة الحُرَّة 1996)، فانحرفتْ جادة سفينة المصالح العامة للدول التابعة هُنا وهناك، صَوْب شطآن أولاد العم سام، على حساب مفهوم "الدولة الوطنية"، الذي انتُهك على وقع التدعيات السلبية لـ"العولمة".

ولم يكن شعوب أوروبا بمعزل؛ إذ عاشوا -ولايزال الكثير منهم- فجوة شعورية مزمنة مع مُؤسسات الوحدة ومراكز صُنع القرار الواقعة بعيدًا -ولعلَّ الاستفتاء البريطاني كشف عن مُعضلات جوهرية تتهدَّد المشروع الأوروبي المصاب بداء "العولمة"- حيث شَعَر البريطانيون بالاغتراب النسبي في زحام التعدد الثقافي واللغوي الأوروبي، ليقدم استفتاء بريطانيا دروسًا حضارية مُستفادة في إدارة الصراع السياسي، والاحتكام إلى رأي الشعب، واحترام خياراته للفصل في أي اختلاف، كما قدَّم صورة حضارية للقيم القيادية للمؤسسات الدستورية الحاكمة في هذا البلد العريق.

ومن هُنا، يُمكن استيعاب الأزمة البريطانية في رحلتها للخروج من تيار "العولمة" والحفاظ على السيادة؛ فقد عَمِل تيار الخروج على حماية المصالح الوطنية وعدم التنازل عن السيادة حتى وإن كان ذلك على حساب المنافع الاقتصادية، وقد جذبتْ هذه الشعارات سكان الأرياف وجزءا كبيرا من الطبقة الوسطى الحذرة المتخوِّفة من المهاجرين وتزايد أعدادهم في المجتمعات الغربية وما يستتبع ذلك من تبعات ((على الرغم من أنَّ المجتمعات الأوروبية تستفيد بشكل كبير وحيوي من  كوادر المهاجرين الجدد ومساهمتهم في الاقتصاد الوطني)).

ويَكْفِي أن نقول بأنَّ واحدة من بين مُسبِّبات هذا الصراع أنَّ الاستفتاء الذي تمَّ في ظل انقسام بريطاني حاد على المستوى الشعبي والسياسي -بل حتى داخل الحزب الحاكم ذاته- لم يمنح الجميع وقتا مناسبا للحوار العميق بين كافة أفراد الشعب البريطاني بشأن مُستقبل بلادهم، مما جعل خطاب الشباب الجُدد يتَّسم نوعًا ما بالتشنج والحشد رغبةً في الانتصار، وهو ما عبرت عنه نتيجة الاستفتاء؛ باعتبارهم أنَّ الجيل القديم تحكَّم في مُستقبلهم، وأثَّر سلبا برؤاه وخططه في النسيج المجتمعي البريطاني، وأحدثَ شرخًا بين الأجيال، كأحد تداعيات "العولمة" التي يصطلي العالم بنيرانها هذه الأيام.

وبعد ما يزيد على الأسبوع، فإنه لا يُمكن قراءة نتائج الاستفتاء البريطاني في سياق بعيد عن كونه ثورة ديمقراطية شعبية ضد الطبقة السياسية التي عبثتْ بأقدار الشعوب الأوروبية؛ فانتفضتْ ضد سياسات تحتاج مراجعات عميقة -سواءً على المستوى الداخلي والخارجي- وإعادة النظر في عمل المؤسسات الحاكمة وفلسفتها الديمقراطية -التي بدت وكأنها تعيش شيخوخة واقعية- لمنع تحكم فئة بمصير فئة أخرى.

وبالرغم من الصَّخب الإعلامي الذي رَافَق الخروج البريطاني على مدى الأيام الماضية، إلا أنه يبقى من الواجب الالتفات إلى عدَّة دروس مُستفادة؛ يُمكن إجمالها في نقاط أربع؛ هي: "قيمة ممارسة الديمقراطية"، حيث أثبتت التجربة البريطانية أن الشعب هو صاحب الكلمة العليا في القرارات المصيرية لبلاده. والثانية "الأحزاب السياسية هي الحل" خصوصا بعدما بدا واضحا من الحملة التي استمرَّت أكثر من أربعة أشهر أنَّ الحياة السياسية العفية التي تتمتع بها بريطانيا كانت سببا جوهريا في خروج هذا الاستفتاء التاريخي بالنحو الذي رأيناه. والنقطة الثالثة "حيادية الإعلام"؛ حيث شاركت الآلة الإعلامية في إنجاح الاستفتاء بشكل يدعو للتأمل؛ حيث عرضتْ وجهتي نظر الداعين للخروج أو المروِّجين لفكرة البقاء على نحو متكافئ؛ دون الاحتكام لنظرية المؤامرات التي تُحَاك هنا وهناك. وأخيرا "صعود اليمين الأوروبي المتطرف" حيث تجلَّت مؤشرات لا تُخطئها عين على صعود رهيب ومفاجئ لقوى اليمين المتطرف واليسار السيادى، تلك التي سارعت إلى المطالبة باستفتاءات مماثلة، في حملةٍ مُنظَّمة، قادها سياسيون مغامرون؛ أمثال: خيرت فيلدرز في هولندا، ومارين لوبن في فرنسا، وكريستيان ثولسن في الدنمارك، وجيمي أكيسون في السويد، وحركة "الخمسة نجوم" و"الرابطة الشمالية" في إيطاليا، وهو أمر ستكون تداعياته على علاقات الدول الأوروبية بعضها البعض كارثيا، وقد ينذر بنشوب نزعة قومية شوفينية أكثر حدة وعنفا واستقطابا من تلك التي عاشتها أوروبا في عصري هتلر وموسولينى.

وعلى أيٍّ، فإنَّ الآثار السلبية المدمِّرة لـ"العولمة"، باتت تصطدم اليوم بمعارضة شديدة من قبل الفئات المتضرِّرة على مستوى دولي واسع، خاصة الدول الصغيرة التي تُفرَض عليها تشريعات وسياسات لا تتناسب مع مصالحها الوطنية كمقدمة لمخاطر أعظم قد تطال مفاهيم "الدولة الوطنية" و"الاستقلال الوطني" و"الإرادة الوطنية" و"الثقافة الوطنية".. إنَّ "العولمة" باختصار تعني مزيداً من التبعية لأطراف القوى المركزية.