البلسم الشافي (الجزء الرابع)(15)

حمد بن عبد الله بن محمد الحــــوسني*

 

أيها النجباء، تحدثنا في نهاية اللقاء (الحادي عشر) أن مشيئة الله -سبحانه وتعالى- وحكمته وعدله اقتضت أن يكون الإنسان مكتسبا لأفعاله، ويملك حرية اختيارها؛ ولذلك يكون محاسبا عليها، وأيضا فإن الله خالق لكل شيء، ومن ذلك أفعال الإنسان جميعها، وهو الذي أوجد في الإنسان القدرة على الاختيار والفعل والكسب، ولا يمكن أن يحدث في ملك الله شيء خارج عن مشيئته وخلقه، نعم يفرق بين الفعل الذي يختاره المرء ويحاسب عليه وبين الفعل الذي يضطر إليه ولا دخل له باختياره، ولكن كله واقع بمشيئة الله وخلقه؛ بدليل أن العبد قد يعزم في بعض الأحيان على فعل أمر ولكن لا يتمكن من القيام به؛ لأنّ الله خلق أسبابا تحول بينه وبين فعل ذلك.

أيها الأعزاء، دعونا نتأمل هذه الآيات التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم في سورة (الإنسان): (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [سورة الإنسان: 29-31]، ولننظر إلى ما قاله المفسرون وبينوا من معانيها؛ ليتضح لنا جليا أمر مشيئة البشر وعلاقتها بالمشيئة الإلهية.

يقول أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن): [قوله -تعالى-: "إن هذه" أي السورة "تذكرة" أي موعظة، "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا" أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل: "سبيلا" أي وسيلة. وقيل: وجهة وطريقا إلى الجنة. والمعنى واحد. "وما تشاؤون" أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله "إلا أن يشاء الله"؛ فأخبر أن الأمر إليه -سبحانه- ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " وَمَا يَشَاءُونَ " بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله -سبحانه-. وقيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء: " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" جواب لقوله: " فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً"، ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال: " وَمَا تَشَاءُونَ" ذلك السبيل " إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" لكم. " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا" بأعمالكم " حَكِيمًا" في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع. يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا "يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ" أي يدخله الجنة راحما له "وَالظَّالِمِينَ" أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لأن قبله منصوب؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون " أَعَدَّ لَهُمْ" تفسيرا لهذا المضمر؛ كما قال الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع؛ تقول: أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا، فيختار النصب؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في "الشورى": "يدخل من يشاء في رحمته والظالمون" [الشورى: 8] ارتفع؛ لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله: "أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" يدل على ويعذب، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان "والظالمون" رفعا بالابتداء والخبر "أعد لهم". "عَذَابًا أَلِيمًا" أي مؤلما موجعا].

 

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم، والمشرف العام لمسابقة رتل وارتق للقرآن الكريم

تعليق عبر الفيس بوك