علاقتنا بالقرآن الكريم(4)


عيسى بن علي الرواحي

من أوجه هجر القرآن الكريم التي بينها العلماء هو هجر التدواي وطلب الشفاء به؛ ذلك أنّ الله تعالى قد أنزل هذا القرآن الكريم شفاء للأمراض والأسقام، سواء أكانت أمراضًا قلبية أم أمراضاً بدنية، أما الأمراض القلبية فلا خلاف أنّه لا شفاء لها إلا بالقرآن الكريم، وهناك من الأمراض البدنية ما يستعصي شفاؤها، فيعجز عنها الأطباء فلا يكون شفاؤها إلا بالقرآن الكريم، يقول الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾[الإسراء:82]. ويقول أيضًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين﴾[يونس:57]. ويقول تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُۖأَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [سورة فصلت : 44]

إن ما يُعانيه كثير من المسلمين اليوم من أمراض الهموم والغموم والأحزان وضيق الصدور والحسد والحقد والتباغض والكراهية والكبر والتعالي والغرور وشتى أمراض القلب لا علاج لها إلا القرآن الكريم، فبه تتحقق السعادة وراحة البال وطمأنينة النفس والرضا، وبه يسمو المرء بالأخلاق الفاضلة والمُثل العليا، وبه يتحرر من سلطان الشهوات والنزوات وسائر المعاصي وشتى مساوئ الأخلاق، فمن ضاق صدره وكثر همه وغمه واشتد بلاؤه وحزنه فعليه بالقرآن الكريم تلاوة واستماعًا وتدبرًا وطلب شفاء وهداية، ولابن القيم في هذا الباب كلام جميل حيث يقول: ( فالقرآنُ هو الشِّفاء التَّامُّ مِن جميع الأدواء القلبيَّة والبدنيَّة، وأدواءِ الدُّنيا والآخرة، وما كلُّ أحدٍ يُؤهَّلُ ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليلُ التَّداويَ به، ووضعه على دائه بصدْقٍ وإيمانٍ، وقبولٍ تامٍّ، واعتقادٍ جازم، واستيفاء شروطه، لم يُقاوِمْه الدَّاءُ أبدًا. وكيف تُقاومُ الأدواءُ كلام ربِّ الأرض والسَّماء، الَّذي لو نزل على الجبال لصدَعها، أو على الأرض لقطَعها، فما مِن مَرض ـ مِن أمراض القلوب والأبدان ـ إلاَّ وفي القرآنِ سبيل الدِّلالة على دوائه وسببه... وأمَّا الأدوية القلبيَّة؛ فإنَّه يذكرها مُفصَّلةً، ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت:51]، فمَن لم يَشْفِه القرآن، فلا شفاه الله، ومَن لم يَكْفِه، فلا كفاه).
وفي السنة النبوية ورد أنّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا ألَّم به مرض أو شكا ألماً فإنّه يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين على موضع الألم ماسحاً بيده الشريفة على ذلك المكان، فعن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه، جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنّها كانت أعظم بركة من يدي". وكما أنّ القرآن الكريم علاج من الأمراض فهو قبل ذلك وقاية وحرز منها، فعلى المرء أن يحرص على هذا الفضل، وأن يداوم ليلاً ونهاراً على قراءة آية الكرسي وأواخر سورة البقرة وسورة الإخلاص والمعوذتين، وغيرها من الآيات التي ورد التأكيد على مزيد فضلها، وينشئ أبناءه على ذلك.

أما أعظم أنواع هجر القرآن الكريم فهو تعطيل أحكامه وعدم العمل بمقتضى أوامره واجتناب نواهيه، فالغاية الأولى من إنزال القرآن الكريم هي تطبيق ما جاء فيه من أحكام، بل يمكننا القول بأنّ قراءة القرآن الكريم واستماعه وتدبره وسائل للوصول إلى غاية مهمة وهي العمل بأحكامه واتباعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ إذ إنه دستور المسلمين ومنهج حياتهم، وطريق سعادتهم، وقائدهم إلى الصراط المستقيم بل هو الصراط المستقيم الذي يقود إلى جنات النعيم، ومنقذهم من طريق الغواية والشقاء، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ( الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة :1_ 2] ويقول الله تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]، ومما هو معلوم أن الآيات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى إنما تتمثل في امتثال منهج القرآن الكريم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وأنه لا فلاح للمرء في دنياه، ولا فوز في أخراه إلا باتباع القرآن الكريم يقول الله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَۖفَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [سورة آل عمران : 32] ويقول أيضا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [سورة اﻷنفال : 20]

إنه لا نجاة للمرء ولا فوز ولا فلاح إذا كان قارئا للقرآن الكريم حافظا متدبرا مستمعا له، وهو غير مطبق لأحكامه، ومن كان هذا حاله، ـ وما أكثر من حالهم كذلك! ـ فإنّ القرآن الكريم سيكون يوم القيامة بل في الدنيا حجة عليهم لا حجة لهم، يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ (سورة المؤمنين الآية: 105).

نعم يكون القرآن حجًة على صاحبه إذا كان يقرأ قوله تعالى : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاۚإِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [سورة اﻹسراء : 23 _24)وهو عاقٌ لوالديه مقصرٌ في حقوقهما، ويقرأ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [سورة البقرة :275_ 276]
وهو منغمسٌ في الربا آكلٌ أو موكلٌ له أو شاهدٌ عليه، ويقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِۖفَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [سورة المائدة : 90_ 91]
وهو لا يترك شرب الخمر، ويتعامل بالقمار وغير ذلك من المنهيات، وقس على ذلك شواهد كثيرة وأمثلة كثيرة في القرآن الكريم... وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
[email protected]