عُمان.. الهلع والطمأنينة

معاوية الرَّواحي

من أقسى اللحظات على كائن بشريّ أن يغمض البصيرة ليرى بعين القلب المبصرة. هذا ما سأفعله كليًّا في هذا المقال الذي لا أعرف إلى أين يسير. وعندما يكتبُ عُمانيٌّ عن عُمان فإن الأمر ليس عاطفياً فحسب، ولكنّه روحيّ، ووجوديّ، وإنسانيّ، ويحمل القيمة الأعظم والأسمى التي يحملها كل غريب في كوكب الأرض، قيمة الانتماء، والتضحية، وقيمة الوفاء والصدق. مسيء ومهين أن يرتبط اسم الوطن العُمانيِّ بالكذب، لا أشير إلى أي أحد، وإنما أهدِّد نفسي قبل أن تسير بي السطور للفكرة القادمة لأقول أي كلمة تخالف الصدق، والصدق استحقاق وطني، من الروح للتراب، ومن التراب للروح، لا يمنح الإنسان روحه كريمةً سخيّة إلا لوطنٍ يستحق هذه الروح، وعُمان تستحق هذه الروح، والدماء، كما تستحق العمرَ والأيم والوفاء.

أول سؤال يطرق باب القلب لا العقل هذه المرّة، هل هذا الوطن العُمانيٌّ في "أزمة"؟ نعم، هل هذا الوطن في أزمة؟ إن هذه الكلمة في حد ذاتها لا تحمل طابعا "عاطفيا"، لا تحمل حديثا من القلب للقلب، فعُمان ليست في أزمة، وأستطيع أن أجزم بذلك كل الجزم، وقبل أن تفترس هذا الشعور بعقلك الحاد صديقي القارئ، فلنعد للغة قليلا.

الأزمة في بلادٍ تحمل طابعا سياسيا، واقتصاديا، وليست لدي معطيات لأحدد أن هذا الوطن الشامخ يعيش "أزمة" بالمعنى الواضح للأزمة، عُمان متحدة، مخلصة، ووفية، وجميع هذه "الظروف" مهما كانت "استثنائية" ومهما حملت من صفات التهويل الكبير، والتضخيم المتعمد وغير المتعمد، والتهوين والتصغير المتعمد وغير المتعمد، لا تمر بأكثر من ظروف شاء الوقت أن تحدث في وقت واحد، هل كل شيء بخير؟ من الكذب أن نقول ذلك؟ ولكن هل هناك كارثة؟ أيضا من الكذب أن نقول ذلك!

إنَّني هنا أنفصل كليا عن أي خطاب له معطيات سياسية أو اقتصادية، فالكل كما يبدو يحلل اقتصادا متأثر كل التأثر بالفوضى العالمية التي تحدث منذ سنين، والشد والجذب والحروب والسلام والأكاذيب والتناقضات الدولية والاقتصاد المتناقض، كل هذا واضح، وليس جديدا على عُمان. مرت عُمان في سنوات عديدة بأوضاع أسوأ بكثير مما يحدث الآن، ولم يتناول الإنسان العُماني ما حدث سابقا بالصورة المتشائمة السوداوية التي ألومُ فيها كل شيء إلا الوطن، والأخ في الوطن، هل حقاً كل هذا الهلع يستحق هذا الهلع؟

أقولُ ونصيبي الفردي من جروح المرحلة السابقة كان كنصيب غيري، ممن شاءت الظروف أيضا أن تفترق الطرق لتقطع بعضها ولتصل بعضها، الأمر ليس فرديا هُنا، ولكنه يتعلق "بالروح" والعاطفة كما قلت سلفا. والقلب مبصر وأعمى في وقت واحد، وهذه التمزق بين واقعين هو الذي يجعلني أكتب هذا المقال، ملقيا بدماء قلبي هذه المرة بدلا من الدموع التي لم تعد تروى كل هذا الجفاف.

عُمان ليست في كارثة ولا أزمة، فلنعد للتاريخ وإلى أزمات عُمان "الأشد" والأقسى، سنجد أننا ما زلنا في خط أمانٍ نسبيِّ بعض الشيء، هذا ليس مطمئنا كليا ولكنه ليس مدمرا كليا، نحن بعيدون كل البعد عن ما تقوله اللغة، وطن شعوره الفعلي هو "القلق" ولكن الكلمات لم تعد تحمل معانيها، والسبب عاطفيّ وليس ماديا، نقول "قلق" ولكنه هلع، نقول "توجس" ولكنه خوف، نقول "توتر" ولكنه ذهان عام ينمو وينتشر ويصيب الذي يفهم والذي لا يفهم.

حالة الهلع من الحالات الجمعية التي تدرك بعدما تزول. يظهر هذا في الزوغان الواضح في بوصلة الكتابة في عُمان، وبوصلة الكتابة هي الشيء الذي أستطيع الانطلاق في الحديث عنه بمعطيات واضحة. إن الصدق هو المنجاة الأولى التي يقف فيها الإنسان أمام نفسه لينجو من شرور النفس قبل أن ينجو من شرور الغير، وما نحن بحاجة إليه فعلا هو الصدق. كل مكان مليء بالأفكار.. في كل مكان.. العقول تعمل والقلوب نسيت الخفقان. هل حقا هذا يحدث؟

أسباب هلع عُمان واضحة ولا تحتاج إلى عالم في الاجتماع ليضع يده على السبب، لكن الحروف صارت تحمل غير معانيها، وهذا هو الذي يدعو للخوف الشديد، لأننا نقول كلاما ونقصد شيئا آخر، ونطلق آراء ونحن نبطن غيرها، وهنا نقف أما رأسمال آخر غير ذلك الذي يقوله الاقتصاديون، الذين هم أيضا بلا معطيات واضحة والسبب واضحٌ وغامض في وقت واحد، كل ما تموج به هذه المنطقة العربية المنكوبة بالنكسات والحزن يزيد من الزوغان هذا، ويزيد من انحراف بوصلة الكتابة، ويجعل الأمر مربكا للجميع، مربكا لمن؟ لنا كلنا كعُمانيين.

... آن لبوصلة الكتابة في عُمان أن تتجه صوب الوطن وأن تقف في صفه، ولكن هل ستدينني وتضع الكلمات في فمي وستقول: آن لبوصلة الكتابة أن تتجه صوب جزء من الوطن، مثل الحكومة، مثل الدولة، الوطن يشمل كل شيء، يشمل الأحياء والأموات، يشملنا نحن الذي ائتمننا التاريخ على عُمان التاريخية التي لا تموت. الوطن بكلّه لا بجزئه، هذا هو الوطن، آن للقلوب أن تخفق وأن تكون الكلمات أمينة مع معانيها، آن ذلك.

ضائع أنا بين الحروف والأرقام، كلها تحمل ربكة القلق، والخوف من الإفصاح. آن لرجل الاقتصاد أن يضع لي شيئا أستطيع به اتخاذ قرار واضح في حياتي، لماذا كل هذا التوتر المسبق؟ لماذا هذا الخوف من كارثة لن تحدث، نعم أقول لن تحدث، أنسينا أنا ثلاثة آلاف سنة تجاوزتها عُمان بكل خساراتها في الماضي ولا تزال عُمان ماثلة أمام عينينا، شعب متحد ووفي؟! ألم يحن وقت الصدق قبل النطق؟

لو قلت إنَّ كل شيء بخير، فهذا كذب، ولكن ليس "كل شيء" ليس بخير، هذا أيضا كذب، أنا ضائع يا صديقي القارئ، ضائع يا زميلي الكاتب، حائر يا صديقي الاقتصادي، خائف يا صديقي السياسي، إن الكتابة مداد الأفكار، هذه سنة الكون، وما أن تطيش بوصلة الكتابة تدور وتدور، وتنتهي من حيث بدأت. من أين يبدأ الصدق؟ من الإنصات للقلب يا صديقي، العالم أصبح محتشدا بالأفكار، ولا شيء غير بوصلة الروح تشير للسماء، بوصلة الوطن المجيد، والعزيز، والأبي، والشامخ، بكل صفات التوتر الوطني أقولها، نحن أقوى من كل هذا.

بوصلة الوطن لا تشير للشمال، ولكنها تشير للسماء، وبوصلة القلوب لا تشير إلا للتراب الذي ستعود فيه، سأقول ما أقوله فردا، لا ألزم أحدا بما أقول، ولكنني أبلع دماء حلقي المتجرّح، وأقف اليوم لأقول، أننا كلنا قلقون، وكلنا حائرون، هناك خوف ولكن ليست هناك مصيبة، هناك مشكلة ولكن ليست هناك كارثة، هناك توتر ولكن ليست هناك فتنة، كل هذا الضغط النفسي العام سيودي إلى نتيجة مؤسفة، الوطن كأي وطن يتعب، ولكنه لا يموت، يصاب بالإرهاق ولكنه لا يسقط صريعا، كل هذا بعيد تماما، بعيد لأنني أقول هذا بقلبي، ليس لي عقل هنا أهديه لك، أهديك قلبي يا أخي العُماني وأقول لك بكل الحسرة والألم، أننا أقوى مما يحدث، أقوى بكثير، أننا أكثر صبرا وتحملا، أكثر صبرا من الجبال التي منها شققنا عروق الماء، أكثر قدرة على التعايش، نعم، هناك قلق، ولكن لسنا بذلك الضعف، لسنا بذلك الانكسار، يا إلهي هل نسينا أي شعب نحن؟ أي قيمة تاريخية نحمل؟ أي وفاء نكنّه، للأب، وللأخ، وللأم، للحبيبة؟ أقول ما أقول، من قلبي لا عقلي لكي لا ننسى، أننا نؤمن، ولكي لا ننسى أننا نحب، أقول أننا أقوى بكثير من كل هذا.. ولا أعرف أي سبب عقلي يجعلني أقول ذلك، إنه قلبي الذي يكتب، ولا أفكار لدي، إنها زحمة الأفكار والخوف والهلع، زحمة اللغة خارج صفتها، وكل هذا سيزول، ويعود كل شيء إلى ما هو عليه، الوقت، الوقت، الوقت، لن تكون أول الجلدات من الزمن، ولن تكون الأخيرة، هذه سنة الكون، وهكذا ينصت القلب للتراب، وهكذا يفهم، وهكذا يتحدث.

نحن أقوى من كل هذا، بكل جزء في هذا الوطن، أقوى، وأكثر وفاء. ومهما حمل الزمان لنا من نوائب، تجلدنا الأزمات، ولكن لا تهدمنا، ولكي لا ننسى: كلنا عابرون، وعُمان هي التي لا تموت.. عُمان فقط هي التي لا تموت.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة