مجلس التعاون الخليجي .. رؤية من العمق

د/عبد الله عبد الرزاق باحجاج

يربط البعض بين فك الارتباط البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، وبين احتمالية حدوثه لبلادنا في إطار المنظومة الخليجية من منظور سياسي، وهم بذلك يسقطون الخيارات الاجتماعية، واختلاف البيئات الأوربية عن البيئة الخليجية، ومتجاهلين كذلك دور بلادنا التاريخي في تأسيس المنظومة الخليجية، وحجم المصالح الكبيرة لكل دول المنظومة رغم ضعفها، فلو تتبعنا الامتداد الديموغرافي العُماني في الخليج، فسوف نجد الأسرة أو القبيلة الواحدة متوزعة على معظم إن لم يكن ست الدول الخليجية، كما تاريخنا في هذه المنطقة - الدولة العمانية التاريخية - لن يدفع بتفكيرنا إلى نسخ التجربة البريطانية مهما كانت الملاحظات العمانية على التجربة الخليجية، ولا نتصور أنّ ذلك في التفكير السياسي العُماني خاصة بعد ما نجحت مسقط في عودة الاهتمام الخليجي بالشأن الاقتصادي والتنموي بعد طموحات الوحدة السياسية الطوباوية، وبالتالي، فإنّ التفكير النخبوي في مسألة المماثلة العمانية لن يكون ذكيًا في مقابل وصف قرار فك الارتباط البريطاني بأنه شجاع.

إن امتداد بلادنا الطبيعي يكمن في الإطار الخليجي فقط، ولن نشعر بأمن واستقرار أي امتداد آخر غير الخليجي، وهذا لا ينفي وجود مشاكل جوهرية ينبغي المسارعة في حلها فورًا، من هنا ينبغي القول إنّه ينبغي أن نستفيد من خطوة فك الارتباط البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، فكيف نستفيد منه خليجيًا؟ لو رجعنا للحملات السياسية لإقناع البريطانيين للبقاء ومثيلاتها للخروج، فسوف نجد تركيز ديفيد كامرون على الضرر الاقتصادي والأمن في حالة الخروج بينما اليمين المتطرف يركز على البطالة والهجرة والهوية البريطانية، خطابان مختلفان، وفي النهاية، كانت للشعب كلمته، فالاقتصاد والأمن في إطار أوروبا لم يحقق للإنجليز الأمن المعيشي.. فأوقف هذا الشعب قارب الساعة الأوروبية للوراء .. وفتح الجغرافيات لانشطارات محتملة، ليس في أوروبا فحسب وإنما حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا كله يصب في مصلحة دول بريكس وشنغهاي التي تقودها الصين نحو تأسيس عالم جديد على أنقاض العالم الذي تمّ تشكيله بعد الحرب العالمية الثانية، فهل مع هذه الصيرورة الزمنية الكونية ينبغي على المنظومة الخليجية أن تتفكك أم تتوحد أكثر من منظور الممكن وليس الصعب على الأقل خلال حقبة الجيل السياسي الراهن؟ هذا التساؤل الجدير بالطرح الآن، فهناك تلازمية عضوية للأمن والاستقرار بين الدول الست، فأمن أية دولة منها هو أمن بقية الدول الأخرى، بحكم تداخلها الجغرافي وبحكم ترابطها الديموغرافي، وبحكم خلافاتها السياسية والحدودية التاريخية على وجه الخصوص، التي بفضل المنظومة الخليجية قد جعلتها تذوب داخل كيانها، حتى لو صعدت في فترات زمنية، يظل حلها مكفولاً ضمن آليات ومكانزمات هذه المنظومة، وكذلك بحكم البُعد الديني وإن بدأ يشكل للبعض عنصراً مزعجاً في بعض مفاصله، لكنه، يظل تحت السيطرة السياسية بحكم التنسيق والعمل المشترك داخل المنظومة الخليجية، ويمكن داخل هذه المنظومة استيعاب واحتواء تداعياته مستقبلاً، وليس من خارجها، مع توفر إمكانية حل هذا الانزعاج داخل المنظومة لو توفرت الإرادة السياسية الواعية عند بعض وحدات هذه المنظومة.

كما أنّ بلادنا، داخل المنظومة الخليجية، تشكل توازنا إقليميًا يصب في صالح الاستقرار والأمن في المنطقة، فهى في إطار عضويتها الخليجية، ودورها الفاعل فيها - تأسيساً وممارسة - تنطلق من منظور ما يخدم مصالحها، ومصالح دول المنطقة عامة، فخروجها كما يطبل به البعض، سيجعلها تميل وترجح موازين دون أخرى، وهذا لن يكون في صالح كل دول المنطقة، وبالذات بعض دوله الكبرى، فقدر دول الست البقاء في هذه المنظومة، مثلما ظلت كذلك رغم الزلازل التي مرَّت بها المنطقة، غير أن زلزال الخروج البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، ومخاطر التفكك المقبلة في الغرب، وصعود نجومية اليمين المتطرف في أوروبا، ومستقبل استلامه السلطة، وفي ضوء تراجع الأهمية الأمريكية للخليج، يجعل دول الخليج العربية تشعر بارتباط مصيرها المشترك لا المنفرد، كما أنّ الظرفية المالية التي تمر بها الدول الست كلها مع التفاوت ترسخ مفهوم قدرية المنظومة الخليجية للدول الست، فهناك تاريخ يمكننا أن نصفه بالجيد في تضامن خليجي خليجي في الأزمات، وكان ينبغي أن يكون أكثر من ذلك لو لا سوء التقديرات السياسية، وهناك بعد آخر وله الأهمية نفسها، وهو أنّ الأزمة المالية ستُعري المجتمعات الخليجية - مع التفاوت - بعد رفع الدعم للحكومي عنها، وسوف تجد الأنظمة الخليجية نفسها أمام تحديات كبيرة مع مجتمعاتها، وهذه حتمي إذا ما واصلت الحكومات الخليجية تحولاتها المالية تحت ضغوطات الأزمة النفطية، فدعم الحكومات الخليجية لمجتمعاتها كانت له عدة نتائج، لعل أبرزها، احتوائها، وحمايتها، وضمان ولاءاتها، فدون حماية الحكومات لمجتمعاتها، ستكون هذه المجتمعات سهلة الاختراق، وهناك فعلاً من يُخطط ضد هذه المجتمعات من منظور أنّ قوة الدولة الخليجية من متانة وصلابة ووحدة مجتمعاتها، والعكس صحيح، نستدعي هذا البعد، لكي نؤكد على تقاطع خطورة المساس بالشرعية الاجتماعية للسلطة السياسية عن طريق السياسات المالية مع تفكك المنظومة الخليجية - لا قدّر الله - فالحفاظ عليها، سيتيح للدول الست ضمانة العمل الجماعي لمواجهة التحديات، فهل هذا مستشرف في الحسابات الخليجية؟.

ونرى ما خرج من قمة الرياض التشاورية الأخيرة أمل باستدراك المسير المشترك، وهو إقرار هيئة عليا تعنى بالاقتصاد والتنمية الخليجية لتحقيق الوحدة الاقتصادية، بعد ما فشلت اللجان الوزارية، وهذا وعي خليجي جديد قد جاء بعد أن تحطمت فكرة الاتحاد الخليجي عند ثلاثة صخور صماء، هى الرفض المطلق للفكرة، والتحفظ عليها، والحماس العاطفي لها بسبب إكراهات سياسية ظرفية، لكن هذا سيتوقف على صلاحية هذه الهيئة وعلى مستوى ونوعية ممثليها وصلاحياتهم، فهل سيدفع إليها بالكفاءات التكنوقراطية أم ستكون على نسخة الهيئات الأخرى؟ المطلوب من هذه الهيئة في ظرفية التحديات التي تواجهها المنظومة الخليجية - داخلياً وخارجياً - الإسراع في نقل المشاريع الخليجية من التنافس إلى التكامل على وجه السرعة، ومن الورق إلى التطبيق، وعليها كذلك عبء تجسيد المواطنة الخليجية في ظل وجود قضية البطالة المتفاقمة التي تتراوح ما بين( 7،5 %- %11،7) علماً بأن حلها قد يكون في تدوير الأيدي العاملة الخليجية بين الدول الست من منظور التكامل الاجتماعي في ظل تفوق نسبة الأجانب على المواطنين في كل من الإمارات وقطر والكويت والبحرين، إحداها وصلت نسبتهم حوالي (%70) فهذه قنابل سياسية وأمنية، فهل من وعي سياسي خليجي جديد يواجه التحديات الداخلية والكونية؟ .

تعليق عبر الفيس بوك