العلم والإيمان والتطرف

فيصل الحضرمي

"العلم بدون الدين أعرج، والدين بدون العلم أعمى". هذه مقولة لآينشتاين وردت في مقالة له منشورة سنة 1954 بعنوان "العلم والدين". ومهما كان الموقف المُتخذ من الشق الأول من المقولة، فإنّ الشق الثاني منها هو الذي يعنينا عند تناول العلاقة بين العلم والإيمان والتطرف من حيث تأثير العلم على الإيمان وقدرته على تهذيبه وتحريره من الأفكار المُتطرفة.

جدلية العلم والإيمان جدلية قديمة يتم تناولها عادة من زاوية التصادم أو التوافق بين الرؤيتين اللتين هما بلا جدال طريقتي مُقاربة الوجود والعالم الأكثر تحكماً في الوعي البشري. كما يحدث أيضاً أن يتطرق النقاش لهذه الجدلية في معرض الحديث عن الصراع المُعتمل داخل الفرد نفسه بين ما تؤكده له معتقداته وما تدل عليه الاكتشافات العلمية، أو بين الإنسان الذي لا يتوسل بغير المنهج العلمي في فهمه للأشياء والظواهر واعتناقه للأفكار والتوجهات وبين من يتعايش معهم من المؤمنين المُتدينين وخصوصاً منهم أولئك المُتشددين. ويحضرني هنا مثال مؤسس نظرية التطور تشارلز دارون الذي يحكى أنّه امتنع عن نشر أبحاثه التي سيطرحها لاحقاً في كتابه الأشهر "أصل الأنواع" مدة عشرين عاماً مراعاة لمشاعر زوجته المسيحية المتدينة إيما ويدجوود.

ما وقع مؤخراً في أورلاندو الأمريكية عندما أقدم عمر صادق متين على قتل 49 شاباً وإصابة 53 آخرين من مرتادي أحد الملاهي الليلية الخاصة بمثليي الجنس أعاد هذه الجدلية إلى واجهة تساؤلاتي. هل كان عمر متين سيقدم على تلك المجزرة لو كانت نظرته للمثلية الجنسية مبنية على ما يقوله العلم بخصوصها لا على ما يُؤمن به هو من قناعات دينية مُتطرفة؟ فنظرة العلم لهذا التوجه الجنسي الأقل شيوعاً لا تحمل في طياتها الإدانة والتجريم اللذين نجدهما في العديد من المُعتقدات الدينية. وبالاقتباس من الويكيبيديا نجد أنّه "في العلم والطب لا يُعْتَبَر التوجه الجنسي اختياراً، وإنما تفاعلاً مُعقداً لعوامل بيولوجية وبيئية. رغم الاعتقاد الشائع بأنَّ السلوك المثلي هو شذوذ أو اختلال. لقد أظهرت الأبحاث أنَّ المثلية الجنسية هي إحدى التنوعات الطبيعية في الجنسانية الإنسانية. وهي بذاتها لا تشكل مصدراً للتأثيرات النفسية السلبية على الفرد المثلي. كما لوحظ ووُثِّق السلوك الجنسي المثلي لدى أنواع حيوانات أخرى أيضاً".

المؤمن الجاهل ليس مجرد أعمى إذن، بل هو مشروع مُجرم بارد الدم. وأشد ما يُثير الحيرة في هذا المجرم المحتمل أنّه إنسان طبيعي في العادة. فهو رب أسرة عطوف وجار ودود وصديق مُخلص وعامل متفان، ولكن معتقداته الخاطئة تماماً والمتطرفة حد قتل الأبرياء تشكل قنبلة موقوتة تنتظر شرارة الانفجار عند أبسط تحفيز. وهذه القابلية للإجرام والإضرار بالآخرين عند الإنسان المُتدين الجيد في تعاملاته الحياتية هي ما كان يعنيه العالم الفيزيائي ستيفن واينبرغ بقوله إنّه "لأجل أن تجعل إنساناً خيراً يقوم بأفعال شريرة فإنك بحاجة إلى الدين". وبالطبع، فإن آيديولوجيات وأفكاراً أخرى عدا تلك المنبثقة عن الأديان بإمكانها بنفس القدر أن تصنع من الإنسان الحمل ذئباً مفترساً متعطشاً للدماء. ومع ذلك، وفيما يخص تأثير الدين في حالة تطرفه على الإنسان الخير أو "المعتدل"، فإنّ المقولة تبقى صحيحة إلى حدٍ كبيرٍ.

بالطبع هناك شواهد أخرى لا تحصى على الدور الهدام الذي تلعبه الأفكار المتطرفة المستمدة من الأديان أو التي يروج لها الدعاة المتشددون والتي كان من الممكن تجنب عواقبها الوخيمة لو ترك البت فيها للعلم وحده. وربما تكون الحملة الشرسة التي يقودها الطالبانيون في باكستان وأفغانستان والقساوسة في كينيا على التحصين ضد شلل الأطفال من أخطر الأمثلة على ذلك. فنتيجة لأسباب مختلفة يأتي في مقدمتها الترويج السلبي واستهداف الجنود والعاملين القائمين على تطبيق برامج التحصين، سجلت باكستان وأفغانستان أعلى معدلات الإصابة بالمرض في العام الماضي، ويبقى الآلاف من الأطفال في هذه الدول وغيرها مهددين بالإصابة بالمرض نتيجة امتناع ذويهم عن تحصينهم استجابة لتلك التحريضات والتهديدات.

انتشر في الآونة الأخيرة مقطع فيديو يتم فيه مقابلة مجموعة من الأشخاص المنحدرين من أصول وأعراق مختلفة وتوجيه بعض الأسئلة لهم بخصوص إثنياتهم ورأيهم في الأعراق الأخرى. تأتي الإجابات في البداية لتعكس الفخر والشعور بالتفوق الذي يمنحه لصاحبه الانتماء لعرق دون آخر. كما أظهرت الردود كم الأفكار المسبقة المتحيزة التي يحملها الأشخاص تجاه أولئك المنتمين للأعراق الأخرى. بعدها أخذت من كل مشارك عينة لعمل فحص الحمض النووي DNA وبظهور نتائج الفحوصات لم يستطع المشاركون إخفاء صدمتهم وخجلهم من أفكارهم المجحفة والعنصرية. فقد أكدت تحاليل الحمض النووي تداخل الأعراق في نسب كل واحد من المشاركين وكشفت عن انحدارهم جميعاً من أصول مختلفة تشمل تلك الأصول التي أعلنوا سابقاً نفورهم منها ونظرتهم الدونية إليها.

مثل هذه التجربة المؤثرة تعلمنا أن العلم بإمكانه أن يفضح ادعاءاتنا وتنميطاتنا السلبية للآخرين وأفكارنا وتصوراتنا المغلوطة. وأخطر الأفكار التي يستطيع العلم انتشالنا من براثنها هي الأفكار الدينية المتطرفة لأنّها الأكثر تحفيزاً للإنسان على الانتقال من الفكرة إلى الفعل، ومن الاحتقار والكراهية الشعوريين إلى الاعتداء الجسدي والقتل. وأخيراً، بإمكان العلم أن يثبت لنا أنّ أعداءنا المتوهمين قد يكونون إخوتنا أو أبناء عمومتنا، وأن الأشخاص الذين نعتبرهم شاذين أو أشراراً هم في الحقيقة أشخاص طبيعيين مثلنا تماماً وإن اختلفوا عنا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة