علي بن مسعود المعشني
عمل بوتين على تطهير الجهاز الذي عمل به وأحبه ويعلم كل خباياه ومراكز القوى والتأثير فيه، فجعل منه جهازًا مهنيًا عاليًا وحيويًا وجعل عقيدته خدمة الاتحاد الروسي حيث عمل على التخلص من جميع العناصر التي كانت محسوبة على لوبيات بعينها في الدولة.
وبعد هذا النجاح الباهر لبوتين في جهاز الكي جي بي العملاق، كلفه الرئيس يلتسين برئاسة الحكومة ورسم ملامح اقتصادها والنهوض به ومقاومة بارونات المال والأعمال ولوبيات النفوذ والتي أصبحت تشكل حكومات ظل حقيقية مستغلة مرحلة وهن الدولة في مرحلتها الانتقالية بين العهد السوفيتي واقتصاد الدولة والعهد الروسي ونهج الاقتصاد الحر.
أغلب المتضررين من إصلاحات بوتين في جهاز الاستخبارات والحكومة كانوا من اللوبي اليهودي الروسي، والذي لم يتأخر في التعبير عن سخطه بتفجير أزمة حرب الشيشان، تبعها إستراتيجية إعلامية ضخمة لتشويه بوتين وإصلاحاته بداخل روسيا وخارجها، ومازالت تتعاظم في كل يوم لغاية يومنا هذا.
لم ينحنِ بوتين أمام رياح الدعاية اليهودية والغربية كما لم ينكسر أو يستسلم في الشيشان أو داغستان أو عموم القفقاز، بل واجهها بروح مسؤولة وبخط مواز من التنمية الشاملة والإصلاحات والبناء الرأسي والأفقي للدولة.
في عام 2004م، توجه الزعيم بوتين إلى نيويورك ليلقي كلمة بلاده في الذكرى الـ60 لإنشاء المنظمة الدولية، وكان القدر معه لأن يلتقي ولأول مرة بسيرجي لافروف مندوب روسيا الدائم بنيويورك عن قرب، حيث رافق بوتين وفدًا كبيرًا جدًا من المعنيين والمختصين برئاسة الجمهورية ومجلس الأمن القومي والاستخبارات الخارجية ووزارة الخارجية.
لفت لافروف نظر بوتين وجعله يستغني عن استشارة أغلب المرافقين بخبرته الواسعة وحيويته وبعقليته التنظيمية ونظرته التحليلية العميقة. وما أن عاد بوتين إلى موسكو حتى استدعى لافروف وبيَّن له إعجابه به ورغبته في تولي حقيبة وزارة الخارجية الروسية. كان لافروف على وشك التقاعد، وقد مورست ضده الكثير من الضغوط والتهميش في عهد وزير الخارجية أندرية كوزيريف (والذي يحمل الجنسية الأمريكية ويقيم بأمريكا حاليًا) حيث حُرم لافروف من حق النقض وأمره بالعودة إلى موسكو في جميع القرارات المصيرية، وهي سابقة في الدبلوماسية الروسية حيث كان المندوب مخولًا بحق النقض (الفيتو) ، إضافة إلى قيام كوزيريف بالاستغناء عن أغلب الكوادر والخبرات الدبلوماسية الروسية في عهد ماسمي بالبريسترويكا وإحلال أشخاص لا توجه ولا خبرات لهم.
لم يتفاعل لافروف مع طلب رئيسه بوتين بالتعيين الجديد وفضل التقاعد وتمسك به مستعينًا بتجربته المرة وغياب هيبة الدبلوماسية الروسية لغياب وتغييب آبائها الحقيقيين. ولكن بوتين لم يترك له خيارًا آخر سوى القبول وقال له: إنه أمر تكليف رئاسي وليس مشورة، هنا قبل لافروف بالتكليف ولكن بشروط وهو أن تكون السياسة الخارجية الروسية من المهام الحصرية بوزارة الخارجية فقط، وأن يُعيد جميع الكوادر الدبلوماسية القديرة إلى عملها، وأن يتمتع بإجازة سنوية قدرها أسبوعين يتخلى فيها عن جميع مسؤولياته ليمارس رياضته المُحببة وهي التجديف في المنحدرات الجبلية رفقة أصدقائه المقربين.
وافق بوتين بلا تردد على شروط لافروف الثلاثة وسط ذهول من عرفوا شخصية بوتين بأنّه شخص يملي الشروط ولا يُملأ عليه، حيث أصدر قرارًا رئاسيًا في اليوم التالي يتضمن تعيين سيرجي لافروف وزيرًا للخارجية، وقرارًا رئاسيًا آخر بحصر السياسة الخارجية الروسية في وزارة الخارجية لا غير وإلغاء الدوائر السياسية في الرئاسة ومجلس الأمن القومي الروسي وجهاز الاستخبارات الكي جي بي.
عُرف عن لافروف إدمانه للعمل الدبلوماسي، فهو شخص لا يكل ولا يمل من السفر والترحال في مهام خاصة وروتينية وحضور الندوات والمؤتمرات ورئاسة اللجان المشتركة، إضافة إلى ممارسته لعمله الروتيني المكتبي اليومي، كما أحاط نفسه بعدد من النواب والمساعدين والمبعوثين الأكفاء لتكون الدبلوماسية الروسية على قدرٍ كبيرٍ من المتابعة والتحليل والحضور الإيجابي في المحافل والقضايا الدولية تناغمًا مع العهد البوتيني الجديد والذي رسم ملامح ومفاهيم جديدة لمصالح روسيا وأمنها القومي ومكوناته وأطره وجغرافيته.
كان لافروف كمندوب لروسيا ذا حضور قوي ومميز على الصعيدين الرسمي والشخصي، وكان شخصًا متسلحًا بكل عظمة بلاده وتاريخها وطموحها، لهذا كان شخصية جادة ومُهابة ويصر على ممارسة صلاحياته على الوجه الأكمل دون تدخل من أحد. يروى عنه ذات يوم أن الأمين العام كوفي عنان أصدر قرارًا بمنع التدخين في مبنى الأمم المتحدة انسجامًا مع قرار رئيس بلدية نيويورك بمنع التدخين في الأماكن المغلقة، حيث امتثل الجميع لقرار كوفي عنان عدا لافروف، وحين وصل الخبر لعنان داهم لافروف وهو يُدخن في مقهى للجمعية العامة، فأبدى عنان امتعاضه من عدم التزام لافروف بذلك، فسأله لافروف: هل أنت أمين عام للأمم المتحدة أم موظف لدى بلدية نيويورك!؟ فأجاب عنان: أنا أمين عام للأمم المتحدة، فقال لافروف: وهل أنا مندوب لجمهورية روسيا الاتحادية أم موظفًا لديك!؟ فرد عنان: أنت مندوب لروسيا.. فقال لافروف: إذن قرارك لا معنى ولا قانونية له.
لاشك أنّ روسيا اليوم في ظل وجود الثنائي بوتين ولافروف تعيش أزهى أيامها بوجود كوادر قديرة على إدارة الدولة وبتشابه يكاد يصل إلى حد التناسخ فيما بينهما حيث تجمعهما العقيدة الفكرية والسياسية الواحدة وانعكس ذلك إيجابًا على جميع المؤسسات في الدولة الروسية فكان هذا التناغم العجيب.
قبل اللقاء: " القادة الحقيقيون لا يصنعون أتباعًا، إنهم يصنعون مزيدًا من القادة"
وبالشكر تدوم النعم.