الأسلوب رسول القلوب

 

عائشة البلوشية

كانت الفراولة في طفولتنا مجرَّد اسم لثمرة محببة لكل الأطفال، نرى رسمها أو صورها في القصص الطفولية، فأنى لطفلة مثلي ترعرت تحت ظلال النخل واللومي والسفرجل والنادان أن تعرف الفراولة!، نعم لها أن تعرف عاضد النغال في ضاحية الحوقاني، والعاضد هو الصف المتسلسل من النخيل، وتتعرف بيسر على أنواع الرطب الكثيرة من مجرد النظر لشكل ولون الثمرة، ولها أن تميز مدى نضج ثمار الزيتون (الجوافا) من قوة الرائحة المُنتشرة في الأجواء، أما الفراولة فكانت حلمًا مثل حكايا الجنيات والأساطير التي كانت ترويها لنا سليمة بنت خليف رحمها الله، ولكنها أصبحت حقيقة ماثلة أمام ناظري في نهاية السبعينيات، فكانت سعادة طفولية غامرة تلك التي تلبستني عندما رأيتها معروضة في أكشاك الفاكهة في شوارع لندن، ولازالت تلك الرائحة الطازجة عالقة في ذاكرتي إلى يومنا هذا، ولكنها ظلت فاكهة مُحببة ولذيذة حتى منتصف الثمانينات، وأذكر حينها أننا كنّا في طريقنا من مدينة لندن إلى مدينة برايتون بالمركبة، ورغم الخضرة التي تجعل أيّ طفل يفغر فاه دهشة، ويرفقها بشهقة طويلة، إلا أنني وشقيقتي نُدير حدقاتنا لنملأها بمناظر الأشجار والامتدادات اللامتناهية من اللون الأخضر وقد لزمنا الصمت، ﻷنّ جدتنا الغالية لقنتنا درسًا في الأدب قبل الخروج من الفندق وذلك حتى لا ينتقدنا الإنجليز، وبعد مُدة من السفر الصامت التفت إلينا "بيتر سوليفان" وسألنا بلكنته الإنجليزية الصرفة: هل ترغبن يا فتيات في قطف ثمار الفراولة؟ فما كان منّا إلا أن انتظرنا رد الجدة الحبيبة بقلوب وجلة رغم الحبور المرسوم بدقة على وجهينا، وترجم سعيد بن عبد الله ما جاء على لسان بيتر فجاء ردها بالإيجاب، وأمر السائق أن يقف عند أوّل لافتة تعلن عن ذلك، وما هي إلا برهة وشاهدنا بعدها لوحة خشبية كتب عليها بخط اليد وبحروف كبيرة واضحة (pick up your own strawbarry)، فدلفت المركبة يميناً وترجلنا منها لنحصل من مالك الحقل على سلة واحدة، واتسعت عيناه ﻷننا طلبنا سلة أخرى، ورغم أننا كنّا نطمح في أكثر من اثنتين إلا أننا رضخنا لنظرات جدتي خوفًا من أن تغير رأيها، كنّا نقف تحت تكعيبة بسيطة تحيط بها أجمات الورد وهي مدخل الحقل، ثم حدَّد لنا المزارع المنطقة التي يمكننا قطف الثمار منها، وعندما دخلنا لنجني الثمار كانت المفاجأة بأن نبتة الفراولة صغيرة خجولة تتدلى منها تلك الثمار الحمراء لتلامس الأرض، ونحن الذين كنّا نمسك بالمخرافة في العراقي لنخرف الرطب متسلقين ذلك الجذع المتين، كنت أظنها شجرة كبيرة كالليمون، لذلك ازداد حبي لهذه الثمرة الرقيقة، ويعلم الله أننا خلال المسافة المتبقية إلى برايتون أخذنا ما يكفي أجسادنا عامًا كاملاً من مضادات الأكسدة، حيث انبرينا نغسل الثمار ونأكلها طوال الطريق، وبالطبع كانت الأسئلة تهطل على رأس بيتر كغزارة المطر في شتاء بريطانيا، حول هذا الأسلوب البديع والجاذب في بيع الثمار والمحاصيل، وكان يُجيب برحابة صدر، بأنّه أسلوب المزارعين هناك عندما يجدون غزارة في الثمار وخشية أن يطالها العطب والتلف، يقومون بوضع اللوائح التي تعلن عن قطف التوت أو الفراولة أو الخضروات في بعض الأحيان، كما أنّهم بهذا الأسلوب يستقطبون التجار للتعريف بمنتجاتهم وجودتها، حيث يحددون زاوية معينة للقطاف، أما بقية الحقل فهو للتجارة بالجملة، المهم أنّ هذه الرحلة علقت في روحي، ولازال هذا الأسلوب التشويقي التعريفي أحد طموحاتي التي أرجو أن أحققها في السلطنة مستقبلاً بإذن الله تعالى...

 

الأسلوب هذا الساحر المحبوب، إذا دخل في أي شيء يصمه بالنجاح الباهر، وينزع عنه دثار الفشل والتأفف البالي، فكلنا قد قرأ أو سمع قصة الملك "ديجارو" الذي كان أعورًا أعرجًا، في بلد قديمة تدعي "سوثيار"، عندما جمع الرسامين ليرسموا صورته، وتوعدهم بالعقاب لمن يظهر هذه العيوب، ولم ينج منهم إلا صاحب الأسلوب الفني الرائع عندما رسمه متخذا وضعية الصيد، جاثياً على إحدى ركبتيه ومغمضاً إحدى عينيه، ففاز بالجائزة الكبيرة التي رصدها الملك، ما أكثر القصص التي تثبت لنا أنّ الأسلوب هو أداتنا الأولى في صندوق الأدوات الذي نحملة معنا طوال مسيرة حياتنا، ونستخدمه في معالجة المواقف التي نمر بها، والحصيف هو من استخدم الأداة المُناسبة لكل موقف على حدة، ولكن الأكيد هو كيف سيستخدم الأداة، وهنا يأتي (الأسلوب الصحيح) ليكون الدينمو الحقيقي لمعالجة الموقف...

 

الأسلوب في الحديث وفي الأفعال يمكن له أن يذيب الحديد من العقول والقلوب المتحجرة، فبدلا من الكلمات الجارحة والأسلوب الفظ مع غيرنا، لنجعل أسلوب الاحترام واللين هو الصفة المعبرة عن ذواتنا، ولكن لننتبه أن الأسلوب الصحيح هو الحل الأمثل والدواء الناجع، فكم من مواقف تفاقمت إلى أزمات متفجرة بسبب أسلوب خاطىء تم انتهاجه؛ والشيء ذاته ينطبق على التسويق لسلعة ما، فإن لم يتخذ نهج التشويق ستبور السلعة لا محالة، و لن تتعدى كونها بضاعة مزجاة، لا يلتفت إليها ولا يقبل على ابتياعها شار، إن الأسلوب لمن أدرك كيفية تطويعه بلسم يمر على النفس فيمسح عنها عناء التحجر، وزنجار الغضب، ويملأها رضا وقناعة، أساليبنا هي بصمات شخصياتنا التي تميزنا عن غيرنا...

 

توقيع:

"لولا الحياء لهاجني استعبار.. ولزرت قبرك والحبيب يزار

ولقد نظرت وما تمتع نظرة.. في اللحد حيث تمكن المحفار"

من رائية جرير،،،