الفلوجة.. حين نقزم أهدافنا الكبرى

عبيدلي العبيدلي

تتوالى الأخبار عن اقتراب استعادة السلطات العراقيّة لمدينة الفلوجة، على يد "وحدات المشاركة في هذه العمليات وهي: الجيش، هيئة مكافحة الإرهاب، الشرطة، المتطوعين من الشعب، سلاح الجو وقوات عشائر الأنبار".

وكما جاء على لسان خبراء عراقيين قريبين من تلك السلطات تنبع أهمية الفلوجة من كونها "وكر تنظيم داعش وإرهابييه الذين سيطروا عليها منذ سنوات وأخرجوا المواطنين العاديين منها وحولوها إلى مقر عمليات لهم وكانت معظم العمليات الإرهابية التي تتم في بغداد وكربلاء خلال السنوات الماضية تنطلق من الفلوجة من التخطيط وحتى تأمين المواد اللازمة لها. كما يصف بعض القادة العسكريين العراقيين الفلوجة على اعتبارها رأس الأفعى ويعتقدون أنّه على الرغم من أهميّة مدينة الموصل ولكن الفلوجة وبسبب قربها من بغداد وأهميتها الرمزية بالنسبة للإرهابيين يجب أن تكون على رأس الأولوية".

تحاشيا للوقوع في مستنقع التخندق الطائفي الذي ينطلق من خلفيات مذهبية محضة، سواء كما يأتي في خطابات التباهي التي يطلقها محور من يؤيد العملية من منطلق شيعي، أو ذلك الذي يلجأ إلى نداءات التباكي التي تشجبها من خلفيات سنية، ينبغي معالجة هذه المسألة من رؤية استراتيجية تضع في حساباتها مصلحة العراق - كنظام سياسي - العليا، ودوره القومي في مواجهة التحديات التي تواجهنا نحن كعرب.

بغض النظر عن النتائج الآنية المباشرة التي ستنجم عن العمليات العسكرية التي تدور في الفلوجة والمناطق المحيطة بها والمتاخمة لها، ومن هو المنتصر أو المنهزم فيها، سنكتشف أنّها على المستوى الاستراتيجي البعيد النظرة، تفرز الواقع المؤلم، المأساوي التالي:

1. على المستوى الاجتماعي، عمقت تلك العمليّات من شرخ التشظي الاجتماعي الذي يعاني منه العراق، حيث سادت العمليات العسكرية متتاليات من الانتقامات الطائفية التي يمارسها هذا الطرف أو ذلك في المناطق التي يحولها تحت سيطرته. وتناقلت وسائط التواصل الاجتماعي صورًا بشعة لمواطنين عراقيين أبرياء ذهبوا ضحية اختلافهم المذهبي مع الطرف المنتصر في تلك اللحظة. ترافق ذلك مع تهشيم منظم وواع لمنظمات المجتمع المدني، وتهميش دورها.

2. على المستوى السياسي، تراجعت هيبة الدولة ومكوناتها، لصالح المليشيات الطائفية وأهدافها الضيقة، فوجدنا أنّ من يفرض المخططات العسكرية على أرض المعركة هي الزعامات الطائفية بدلا من القيادات العسكرية النظامية، مدفوعة بحقدها الطائفي، بدلا من استراتيجيّاتها العملياتيّة، الأمر الذي من شأنه تعزيز ثقلها العسكري من جانب، وتهميش دور القوات العسكرية المنظمة في ميدان المعركة من جانب آخر، وهذا بدوره يعزز من حضور تلك المليشيات الطائفية السياسي في المشهد العراقي القائم، الأمر الذي من شأنه تراجع دور مؤسسات الدولة وأجهزتها لصالح المليشيات الطائفية وأجنحتها.

3. على المستوى العسكري، تراجع أفق قيادات المؤسسة العسكرية العراقية، وهي مؤسسة عريقة، ولها مساهماتها التاريخية في معارك العرب الاستراتيجية، من أفقها القومي الرحب، إلى نظرتها الطائفية الضيقة. ولا تصمد أمام هذا التراجع تلك التبريرات التي تبالغ في نسبة مساحة الحيز الذي يحتله ما أصبح يعرف باسم "تحرير الفلوجة"، في مشروع بناء القوات المسلحة العراقية، ومن ورائه إعادة بناء أركان الدولة العراقية التي باتت ممزقة، وتحولت إلى جزر متباعدة تفتقد إلى قيادة موحدة.

4. على المستوى الاقتصادي، فقد العراق - كنظام - سيطرته الكاملة على موارده الاقتصادية، وفي مقدمتها النفط، إذ أصبح النفط العراقي يباع في ثلاثة أسواق مستقل الواحد منها عن الآخر، الأولى تلك التي تزودها مؤسسات الدولة الرسمية، والثانية تلك التي تسيطر على حصة منها القيادات الكرديّة في الشمال، والثالثة التي تعبث بها المليشيات المسلحة محميّة من تجار الأسواق السوداء المتنفذين بفضل مناصبهم الرسمية أو مراكزهم الطائفية. ومن ثمّ لم يعد هناك خطط استراتيجية تتحدث عن العراق ككيان سياسي موحد. يفاقم من هذا التدهور الاقتصادي ما تلتهمه موازنات الصدامات العسكرية الفئوية الطائفية من موازنات الدولة ومداخيلها.

كل هذه التراجعات على المستويات الأربعة المشار لها أعلاه، جرت أقدام العراق كنظام، وعلى الصعيد الاستراتيجي نحو أزقة فرعية، بعيدة عن الطريق الاستراتيجية الرئيسة، ومن ثم غرق في أوحال معارك داخلية ثانوية على الصعد كافة: الاجتماعية والسياسية والعسكرية، بل وحتى الاقتصادية، أجبرته - كمحصلة نهائية - على التقوقع الداخلي والدخول في صدامات طائفية ثانوية، فتحولت الدولة من طرف مركزي يحكم قبضته على البلاد، إلى ما يقترب من إحدى المليشيات الطائفية، أو القبلية.

مستقبل العراق مظلم بغض النظر عن نتائج معارك الفلوجة، فالانتصار في الفلوجة، لن يكون أكثر من دحر فلول هذه المليشيا الطائفية أو تلك فحسب، طالما الخلفية التي تتكئ عليها تلك العمليات العسكرية منطلقة من خلفيات طائفية.

وما يجري في العراق لا يختلف كثيرا، في جوهره وليس في تفاصيله اليومية، عمّا يدور في مناطق عربية أخرى. ربما يكون هو الأكثر وضوحًا، لكن المشهد يكرر نفسه في أكثر من بلد عربي، وهذا يعني نجاح المشروع الدولي/ الإقليمي الهادف إلى تقزيم الأهداف العربية، من خلال الزج بها في معارك داخلية تقودها المليشيات الفئوية، وتمنعها من رفع أنظارها وتوسيع آفاقها كي ترى ما هو أبعد من أصابعها الطائفية. غيّب العراق عن معارك النفط العربي، وأرغم على التراجع عن المشاركة الحقيقية في الصراع العربي الصهيوني.

تقزمت الأهداف العربية، فتحولنا من لاعب استراتيجي في حلبة العلاقات الدولية إلى مجرد مشاهد غير مسموح له بالدخول إلى تلك الحلبة، وحتى عندما يحاول التمرد على قرارات ذلك المشروع، سيجد نفسه منهكًا من جراء معاركه الداخلية، مما يضطره إلى العودة إلى مقاعد المتفرجين، لكن تلك المقاعد لا تبعده عن نتائج صراعات الحلبة بل تجبره على القبول بتلك النتائج.

تعليق عبر الفيس بوك