صِنَاعةُ الانتحار!

سلطان بن خميس الخروصي

يقول الراحل محمد حسنين هيكل: "الآن لدينا في عالمنا العربي يمينٌ يذهب إلى الجهل، ويسارٌ يندفع إلى المجهول"، يبدو أنّ الصورة لا تزال ضبابية حول انجرار المنطقة برمتها إلى مستنقع مُبهم؛ فغياب العدالة الاجتماعية، واضمحلال التعليم، وكساد الاقتصاد، وانعدام الثقة بين أطياف المُجتمع العربي، وانحسار مُزن الإبداع والابتكار، وانغماس الأمن بشراهة في مختلف مفاصل المؤسسات المدنية، وغياب اتجاهات بوصلة الإعلام العربي الرسمي والخاص، وتصحر الفكر التوعوي والإصلاحي لكثير من الكُتَّاب العرب والأدباء والمفكرين، كلها إرهاصات ولَّدَت لدينا واقعًا مُزريًا.

لكن المتتبع لحيّثيَّات هذا المشهد والذي يُشعرك بالغثيان يتساءل: ألا يملك العربُ مفاتيح المدنيَّة والتحضُّر والإنسانية؟، وهل واقعنا الحالي نتيجة طبيعية لوصول رجال الفتاوى عرش الحكم أم ردة فعل لإقصائهم عن المشهد السياسي؟، وهل الشعب العربي أصبح "فَزُّورة" للاستخفاف والسُخرية لأنُّه يُصدِّقُ كل شيء دون أن يَتبيَّن؟، ثم لماذا يصبُّ العرب جُلَّ غضبهم على إيران وإسرائيل دون أن يوبِّخوا أنفسهم لافتقارهم الخيارات السياسية والاقتصادية على المستوى الإقليمي والعالمي؟، ثم إلى أي وادٍ يهيمُ "القومجيون" العرب بما يحصل في سوريا والعراق وهم من أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بأنهم الخيار السياسي الناجح في المنطقة؟، من يتحمل تبِعات صناعة الانتحار في الشعب العربي وأجياله المتعاقبة؟.

من الضرورة بمكان أن تُلملم الأوراق المبعثرة على طاولة المحاسبة والمصارحة، فالتاريخ "يلعنُ" الأمم المتخاذلة عن مصالحها الوطنية والقومية، ومهما بقيت "خفافيش" الانتقام تسيطر على "لاهوت" العقول والقلوب سيظل المواطن العربي ينزف هباء منثورا، فأضحى المواطن العربي اليوم لا يعرف عدوَّه من صديقه!، فتارة يُلقي حباله على إيران، وتارة على أمريكا، وأخرى على أوروبا، وتارة على الحكام ورجال السياسة، وأخرى على رجال الدين وتُجَّار الفتاوى، وحينما "يبشم" من هذا وذاك ألقى الجمل بما حمل على سوء حظه وتخلُّفه في مواطن مؤسسات الدولة كالقضاء، والتعليم، والصحة، والبنية التحتية، والاقتصاد وغيرها.

يكادُ يكون المواطن العربي "ماركة" عالمية في "صناعة الانتحار" ليبقى السؤال: لماذا تنتشر هذه الثقافة المشينة وهذا السلوك الانهزامي بين أوساط المجتمعات العربية كانتشار النار في الهشيم دون أن يكون هناك حِراكٌ من قِبل من كانوا "سبايدر مان" في هذه الفوضى العارمة؟، ثم ما هو الدور الذي تلقَّفه رجال الدين على صدورهم لتنوير الناس بالخطاب الإسلامي الحنيف الذي أظهر ذات يوم لرسول ملكِ الفُرس حينما أقبل على خليفة المُسلمين (الفاروق) - رضي الله عنه- وقد بنى في مخيلته النمارق والغلمان والجواري وأباريق من الذهب والأحجار الكريمة والسُندس، لكنه تفاجأ برجل بسيطٍ في معيشته قوي في دينه ومبادئه قد توسَّد يداه ونام على حصيرٍ بالٍ يستظلُّ برحمة الشجرة؟، متى تتشبَّث الأحزاب العربية المستقلة بمبدأ الحياة الكريمة فلا تميل نحو المال والهوى؟.

من المعيب أن يُلقي العرب فشلهم على الآخرين وإن كان الآخرون يتربصون بهم الدوائر، إلا أنّ واقعنا ينطبق عليه قول فرحات حشَّاد: "الثورة يُفجِّرها مجانين بعشق الوطن، فيموت فيها الشُرفاء، ويستفيد منها الجُبناء"، ما حصل في الوطن العربي هي مجرد فقاعات أطلقها ثلُةٌ من المُراهقين الذين لا يملكون برامج سياسية، ولا بدائل اقتصادية، ولا مبادئ فكرية رصينة تُحقِّق لشعوبهم وأوطانهم الخير والنجاح، على ألا نغفل الدور (المسعور) لبعض وسائل الإعلام التي جعلت من هذه الوسيلة العابرة للقارات أداة لحرفية صناعة الموت واستهواء الانتحار، فكيف لإعلامٍ "يرضعُ" من خيرات الوطن عشرات السنين فيبني نفسه ويؤسس "مملكة" من المُراسلين والمُحللين والكُتَّاب والنُقَّاد وغيرهم، ثم يهوي بما أنجزه سبعين خريفاً نحو حضيض النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية؟!، دون الالتفات إلى ميثاق الشرف الصحفي الذي يُجرِّد الإعلام الحُرّ والمُحترف والمِهني من هكذا تجاذبات سياسية وثقافية وولائية؟.

قد يبدو أنّ العرب تفوقوا - حتى اللحظة - في صِناعة الانتحار بين شعوب العالم تارة بشماعة "الجهاد"، وتارة بجنون "الانتقام"، وأخرى بطلاسم "التطهير"، وأحيانًا بفتوى "التحرير" وكلهم يقرؤون قول ربٍ واحدٍ تعددت الفتاوى في حل دمِ أخ لأخيهِ في سبيل عبادته "إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الآية 10، سورة الحجرات).

 sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك