علاقتنا بالقرآن الكريم (2)

عيسى بن علي الرواحي


الأحاديث النبوية التي حثَّت على تلاوة القرآن الكريم واغتنام فضل قراءته كثيرة، فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"، وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " اقْرَأُوا القُرْآن؛ فَإِنّه يَأْتِي يوم القيامة شفيعًا لأَصحابه..." وورد عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّه قال لأبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ: "عليك بتلاوة القرآن وذكر اللَّهِ؛ فَإِنَّه نُورٌ لك في الأَرض، وذخرٌ لك في السَّمَاء".
ولمزيد فائدة فقد بيَّن العلماء أنَّ تلاوة القرآن الكريم على معنيين، فالتلاوة بمعنى القراءة وهي تلاوة اللفظ، والتلاوة بمعنى الاتباع وهي تلاوة المعنى، ولا ريب أنّ هجر تلاوة المعنى أي اتباع القرآن أشد من هجر تلاوة اللفظ.

ويُحذِّر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولئك الذين يعلقون المصاحف في بيوتهم ولا يتعاهدونها بالقراءة، كما هو حال كثير من المصاحف اليوم في البيوت والمساجد حيث تكثر عليها الأتربة ويتطاير منها الغبار، وهي مأساة بالغة في واقع من يكون حاله كذلك، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين إنّ عبدك هذا اتخذني مهجورًا فاقضِ بيني وبينه). ويا ترى ما حجة الإنسان اليوم وقد تعلم قراءة القرآن الكريم، وصار المصحف موجودًا معه أينما حل وارتحل فإن لم يكن ورقياً، كان معه إلكترونيا في جهازه النقال؟!.

ويبين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّ تلاوة القرآن الكريم علاج لصدأ القلب الذي ابتلي به اليوم كثير من النّاس، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: وما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن، وذكر الموت).

ومما يؤسف له أنّ هجر تلاوة القرآن الكريم أصبح عند كثير من الناس حتى في شهر رمضان المبارك الذي هو شهر القرآن، فبعد أن كُنّا نسمع عن تنافس الصغار والكبار في مرات ختم المصحف الشريف في هذا الشهر الفضيل، صار هم أغلب الأبناء في النوم واللهو واللعب حتى داخل المسجد، وقد لا يتجاوز فتحهم للمصحف الشريف في سائر الشهر إلا مرات محدودة معدودة، وإذا كان حال الأبناء مع القرآن الكريم بهذه الصورة وهم يقضون في رمضان الكريم فترة الإجازة الصيفية، فكيف عندما يتزامن رمضان مع أيام الدراسة، كما هو المتوقع في الأعوام القادمة بإذن الله تعالى؟! وأبعد من هجر الأبناء لتلاوة القرآن الكريم فإنّ هناك مأساة أخرى أشد وأنكى، وهي ما يُعانيه الكثير منهم من عجزهم عن قراءة القرآن الكريم على الوجه الصحيح، وهذه قضية أخرى قد أسهبنا الحديث عنها في مقالات كثيرة سابقة، لكن مما تضيق له ذرعاً أن تجد من الطلاب المتفوقين دراسياً من لا يجيدون تلاوة القرآن الكريم مقارنة بمستواهم التحصيلي، وهذا ما عشته في إحدى المدارس التي نظمت مسابقة لتجويد القرآن الكريم، فظهر أن هناك من المتفوقين لا يحسنون تلاوة القرآن الكريم ويفتقرون إلى أبسط أحكام التجويد.

ومن أوجه هجر القرآن الكريم هجر الاستماع إليه رغم كثرة الوسائل الحديثة المُتوفرة للاستماع في وقتنا الحالي إضافة إلى القنوات الإذاعية والتلفزيونية الكثيرة الخاصة بالقرآن الكريم، وقد بيَّن الله تعالى في كتابه العزيز أنّ من وسائل نيل رحمته هو الاستماع للقرآن الكريم يقول تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [سورة اﻷعراف : 204]

ولا ريب أنّ الله تعالى في الآية الكريمة يأمرنا بالاستماع لا السماع للقرآن الكريم أي بحضور القلب وعدم الاشتغال بأمر آخر غير الاستماع والإنصات.

ويُبيِّن الله تعالى في الكتاب العزيز حال أصناف من الناس في تعاملهم مع القرآن الكريم أثناء تلاوته، فصنف من الناس يرفض سماع القرآن ويدعو إلى إعابته والتشويش على قارئه والاستهانة به أثناء تلاوته يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[سورة فصلت الآية ـ 26] وهذه الآية الكريمة وإن تحدثت عن الكافرين فإنها تنطبق على كثير من المُسلمين، فهناك من يستاء إذا عُطرت الجلسات أو الأجواء بتلاوة القرآن الكريم، وهناك من يُسارع إلى تغيير القناة الإذاعية في حال كانت في تلاوة القرآن الكريم، وقس على ذلك كثيراً من الشواهد والأمثلة، ولعل أمثال هؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [سورة الزمر : 45]

وصنف من الناس يزداد طغيانا واستكبارا في حال سماعه لآيات الذكر الحكيم، يقول الله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (سورة لقمان : 7)

وصنف آخر من الناس يتفاعل مع تلاوة القرآن الكريم، ويتمازج روحه وجسده مع آيات الذكر الحكيم، ويبحر بوجدانه في ملكوت تلك الآيات البينات، وهذا الصنف من الناس قد بلغ الإيمان في قلوبهم مبلغا كبيرا، وصار تعلقهم بالله تعالى والآخرة تعلقاً عظيمًا لا تؤثر فيه ملذات الدنيا ووساوس النفس ونزعاتها، وصار الإيمان وآيات القرآن الكريم يسري في نفوسهم وأجسادهم ووجدانهم كسريان الدم في عروقهم؛ لأنّهم أيقنوا أنّ هذا القرآن هو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعاشوا هذا اليقين بالقرآن الكريم واقعًا حقيقياً ملموسًا، يقول تعالى واصفًا هذا الصنف من النّاس أثناء استماعهم لآيات الذكر الحكيم : (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء 107... 109) ويقول أيضًا: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم 58) ويقول أيضًا (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر 23).

إنّ مما يُؤسف له حقاً في واقع كثير من أبناء المسلمين اليوم أن تضج مركباتهم ومنازلهم وسائر أماكن حلهم وترحالهم بمزامير الشيطان، وآلات اللهو والغناء والطرب ولا يوجد في وقتهم مُتسع للاستماع لكلام رب العالمين، ولكن هيهات أن يجمع الله في قلوب أمثال هؤلاء حب الغناء والطرب مع حب استماع القرآن الكريم، فالقرآن الكريم كتاب عزيز لا يُمكن أن ينزل في قلوب اتسخت بأدران المعاصي والرذائل... وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
issa808@​moe.​om

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة