علاقتنا بالقرآن الكريم (1)

عيسى الرَّواحي

"بعد ابتسامته اللطيفة وكلماته المحفزة، أوضح له في تشبيه بليغ بأنه يعصر الحصى ليجد وقتا كافيا لإنجاز الكثير من الأعمال المتراكمة، وبعد معاودة الطلب، قال بأنه لا يمكنه أن يعطيه وعدا بذلك، ولا يملك له الآن إلا الدعاء بالتوفيق".. كان ذلك رد سماحة شيخنا العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، لطالب العلم الذي طلب منه تنقيح كتاب قبل إصداره، ولم يكن غريبا ذلك الرد ولا التشبيه البليغ الذي اعتذر به؛ فكلنا نعلم أنَّ العلماء الأجلاء هذه حالهم، فقد باعوا أنفسهم فداءً للدين وأهله، وأن واجباتهم وأعمالهم التي يحملونها على عاتقهم أكبر بكثير من أوقاتهم، والمطالع لإنجازاتهم وأعمالهم يتَّضح له أنَّ كل لحظة من لحظات أعمارهم مستغلة في خدمة الإسلام والمسلمين، وفيما يرضي الله -عزَّ وجل- حتى ليُخيل لك أن إنجازات ومؤلفات عالمٍ ما تفوق عمره بأضعاف، أو بتعبير آخر أنه عاش أضعافَ عمره ذلك مرات عدة، وتلك هي بركة الأعمار التي يهبها الله لعباده من يشاء، وسماحة الشيخ العلامة الخليلي أحد الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، ولا نزكي على الله أحدا.

وفي الوقت الذي دار فيه الحديث السريع بين طالب العلم وسماحته عقب صلاة المغرب في أحد مساجد العاصمة، كان هناك من يُمسك المصحف الشريف؛ ليناوله سماحته حيث يقضي وقته بين العشاءَيْن بالمسجد مع كتاب ربه.

والمشهد الأخير هو ما أود الحديث عنه والتطرق إليه والاستفادة منه؛ فرغم المهام الجسام، والأعمال العظام، والمسؤوليات الكبيرة التي لا يجد فيها سماحته وقتا كافيا لإنجازها، فإن ذلك لم يمنعه من تخصيص وقت مع المصحف الشريف، ولم يجد لنفسه عُذرا في ذلك، وحسب ما يرويه المقربون منه فإنه يقرأ كل يوم وليلة سبعة أجزاء ونصف بحيث يختم المصحف الشريف كل أربعة أيام، وصدق المتنبي إذ يقول:

"وإذا كانت النفوس كبارا... تعبت في مرادها الأجسام".

والمطالع لسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحكم أمة بأكملها، ويدير جميع شؤونها، يجد أنه لم يكن يترك لقاءه مع كتاب ربه يومًا، وكان يقوم الليل كل ليلة حتى تتفطر قدماه، فتَرْأَف بحاله السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فيجيبها بقوله: " أفلا أكون عبدا شكورا". فهل يا تُرَى يُعذر من يعتذر بالأشغال والأعمال عن تلاوة القرآن الكريم؟!

وبما أنَّه قد أطلَّ علينا شهر الرحمات والنفحات شهر رمضان المبارك، فإننا لن نجد وقتا أنسب للحديث عن القرآن الكريم أفضل من هذا التوقيت، ولا مناسبة أفضل من هذه المناسبة؛ فرمضان والقرآن اسمان متلازمان؛ فالأول هو الشهر الذي أُنزل فيه الثاني على النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول الله في محكم التنزيل: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (سورة البقرة:185).

وسأقصر حديثي خلال هذا الشهر الفضيل -عبر صفحات هذه الجريدة الغراء- في مقالنا الأسبوعي، على علاقتنا بالقرآن الكريم، وواقعنا الحالي معه الذي لا يحتاج في حقيقة الأمر إلى شرح وبيان بسط، فكما يقال فإنَّ لسان الحال أصدق من المقال، ولكنه من منطلق "معذرًة إلى ربكم ولعلهم يتقون"، أو هي الذكرى التي تنفع المؤمنين وتذكر الناسين، وتنبه الغافلين، وكاتب المقال أحوج الناس إليها.

إنَّ السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا -خاصة ونحن نعيش نفحات هذا الشهر الفضيل- هو: ما هي علاقتنا بالقرآن الكريم؟ ما علاقتنا بالقرآن الكريم في ظل الأوقات التي نهدرها في أمور شتى لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي ظل ما يعانيه كثير منا من نعمة الفراغ وقتل الوقت؟ وما علاقة أولئك الذين تساورهم الشكوك والأوهام والأحزان بالقرآن الكريم؟ وما علاقة أولئك الذين يقضون الأوقات الطويلة في المدرجات وعبر الشاشات الرياضية بالقرآن الكريم؟ وما علاقة أولئك الذين يعيشون عالم المال والأعمال والتجارة والمقاولات بالقرآن الكريم؟ وما علاقة أولئك الذين يقضون الساعات الطوال في القراءة عبر الشاشات والكتب بالقرآن الكريم؟ وما علاقتنا بالقرآن الكريم قراءةً واستماعا وحفظا وتدبرا وعملاً؟!

... إنَّ واقع عامة المسلمين اليوم يحكي لنا جفوة بالغة وهجرانا كبيرا مع القرآن الكريم المعجزة الخالدة، هجرانا على كافة الأصعدة، وهجران القرآن الكريم شكاية رفعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن قومه إلى ربه، وما من شكاية يرفعها نبي عن قومه إلا إنذار لأولئك القوم أن يصيبهم عذاب الله وعقابه وحلول نقمته، يقول الله تعالى: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (سورة الفرقان:30).

وقد أوضح العلماء والمفسرون عدة أوجه لهجر القرآن الكريم والابتعاد عنه، فهناك من يهجر القرآن الكريم في وجه واحد، وهناك من يهجر القرآن الكريم في أكثر من وجه، وهناك من يجمع بين أوجه الهجر كلها، ومن أوجه هجر القرآن الكريم هجر قراءته وتلاوته حق التلاوة؛ فهناك من لا يعرف تلاوة القرآن الكريم إلا في شهر رمضان المبارك، وهناك من لا يعرف القرآن الكريم إلا من الجمعة إلى الجمعة، وهناك من يقرأ القرآن الكريم حسب مزاجه وسعة وقته، وهناك من يلجأ إلى تلاوة القرآن الكريم عندما تضيق به السبل وتشتد عليه الأزمات، فيرجو الله أن يُفرِّج عنه الشدائد والكرب بتلاوته للقرآن الكريم؛ فإذا ما انفرجت أزمته مرَّ وأعرض كأنَّ شيئا لم يكن، وهناك من يهجر تلاوة القرآن الكريم بشكل كامل حارمًا نفسه الفضل والخير، ومُعرِّضا نفسه للشقاء والحرمان، فهل يليق بالمسلم أن يهجر تلاوة كتاب ربه؟! يقول تعالى: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" (سورة العنكبوت:45).

ويقول أيضا: "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِي وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ" (سورة النمل:91-92).

ويقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا..." (المزمل:1-49)، ويقول الله تعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون" (البقرة:121)، وورد عن الإمام الغزالي قوله في بيان معنى تلاوة القرآن، الكريم حق التلاوة ما نصه: "وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب؛ فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ).

ويبيِّن الله تعالى أن من أسباب فوز المرء بنعيم الجنة هي تلاوة القرآن الكريم؛ حيث يقول تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ" (سورة فاطر:29). أما المعرضون عن ذكر الله تعالى؛ فإنهم في خطر عظيم يقول الله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (سورة طه:124)... هذا، وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك