رمضان أقبل يا أولي الألباب..!

فيصل الكندي

بقلوبٍ تملؤها البهجة والسرور يستقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها شهر رمضان المبارك في دورة سنوية استجابة لأمر الله تعالى وأداءً لفريضة الصيام وتصفية النفوس وبرمجة القلوب ومحاسبتها، وإعادة تاهيلها.. ففيه تتنزل الخيرات وتعم البركات ويتفضل الله سبحانه وتعالى فيه على عباده بمزِيد فضلٍ ورحمةٍ ومغفرةٍ وعتقٍ من النار، وجائزة كبرى في آخره وهو فرصةٌ كبرى لمن أراد التغيير في منهج حياته للأفضل.

ويخفى على الكثير من الناس بأن الهدف الأسمى من الصيام هو الحصول على "التقوى"، وشروط الصيام كلها كفيلة بتحقيق هذا الهدف الذي ورد ذكره في آية فرضية الصيام وهي الغاية الكبرى من الخلق؛ فالتقوى تجعل الإنسان مراقباً لله تعالى في حركاته وسكناته فهو يتقي عذاب الله تعالى بطاعتِهِ وطاعة رسولِهِ والابتعاد عن كل ما يجُرُ إلى سخطِ الله تعالى فيتحول الإنسان عبداً ربانياً ويأتي رمضان المبارك ليحقق هذا الهدف من خلال تدريب عملي بالابتعاد عن الطعام والشراب...وغيرها من المباحات رغم أنها على متناول اليد، إلا أنَّ الخوف من الله تعالى يمنع النفس من ذلك وكذلك الحال مع المحرمات تمنعه التقوى من ارتكاب كل ما يغضب الله تعالى فينغرسُ فكر المراقبة في النفس فيحاسب الإنسان نفسه على كل صغيرة وكبيرة.

هناك الكثير من المنافع التي نجنيها من مدرسة الصيام؛ فالتقوى هي الأصل وتلك المنافع هي الفروع، فإنْ كان الأصلُ قوياً صارت الفروعُ قويةً كذلك فمن تحققت فيه التقوى صار سهلاً عليه الحصول على منافع أخرى تهذب نفسه وترتقي بها الى المعالي من بين تلك المنافع وأهمها "الصبر"، والصبر في رمضان المبارك ثلاثة أنواع: صبرٌ على طاعة الله تعالى كالصلاة والقيام وتلاوة القرآن، وصبرٌ عن بعض الحلال إلى أن تغيب الشمس كالأكل والشرب والجماع، وصبرٌ على معصية الله تعالى كالأكل والشرب في نهار رمضان المبارك والغيبة والنميمة أو اقتراف شيء محرم، ويستمر الصائم صابراً وبأقصى درجات الحذر حتى لا يبطل صيامه إلى آخر ساعة في رمضان، فإذا كانت النفس المؤمنة التي حققت شروط الصيام قد تعودت على ترك الحلال وهو حلال أصلاً من أجل الله تعالى، فكيف لا تترك الحرام وهو حرامٌ أصلاً طاعةً وتقرباً لله تعالى؟!

ففي رمضان، ترتفع المعاني الانسانية؛ حيث تجد الصائم قد تغيرت نفسيته وعلاقاته ومشاعره تجاه الآخرين تغيراً ملحوظاً فيرحم الصغير والمسكين والفقير ويتصدق عليهم ويخرج زكاة ماله ويتصالح مع أهله وجيرانه وأقاربه وأرحامه، وترى الصائمين يتسابقون إلى إكرام غيرهم والإحسان إليهم ماديًّا ومعنويًّا، ويتبادل الجيران صحونَ الوجبات ويوزِّع آخرون أكياس الأرز والقمح على المحتاجين في مشاهد تتسم بالأخوة والرحمة والشفقة على الآخرين الذي نتمناه أن يستمر ويتنامى فيما بعد رمضان المبارك.

يستخدم الكثير من الناس الصيام للحصول على الصحة، ويأتي شهر رمضان المبارك ليلزم جميع المسلمين المستطيعين على هذا العمل لما له من فوائد صحيةٍ كثيرةٍ لا نعلم منها إلا القليل من أهم تلك الفوائد وأكبرها أنالمعدة تحصل على إجازة تتم فيها عملية تصفية الجسم من الشوائب المتبقية في جدران المعدة والأمعاء والكبد والمرارة والبنكرياس والصيام يعين كذلك على استهلاك المخزون من بعض الأغذية والدهون وسكر الجلوكوز التي في الجسد والصائم كذلك يزيل من جسده المواد الضارة الموجودة في الجسم من خلال القولون والكليتين والمثانة والجلد والرئتين والجيوب الأنفية والصيام يؤدي إلى زيادة كريات الدم البيضاء التي تقوي الجهاز المناعي ويفيد الصيام كذلك مرضى الضغط والقلب والربو والقرح والقولون العصبي والجلد...وغيرها كثير من الفوائد الصحية التي يجنيها الصائم.

لقد أتت الشريعةُ الاسلامية لتحقق أهدافاً شتى لتنظم العلاقات التي تتعلق بالفرد والأسرة والمجتمع من أكبر تلك الأهداف "الوحدة الإسلامية"؛ فترى المسلمين في عباداتهم كالجسد الواحد ويتجلى هذا المشهد في الصلاة والحج والصيام؛ فعباداتهم تبدأ بتوقيت معين وتنتهي بتوقيت معين؛ فالصيام يبدأ من ظهور الخيط الأبيض وينتهي عند الخيط الأسود في أداء جماعي لا يتقدم أحدٌ أحد في البلد الواحد فتعطينا هذه العبادات دروساً في الوحدة والتآلف والتعاون، وهو ما نفتقده هذه الأيام التي يذبح فيها المسلم أخاه المسلم من أجل الدنيا أو مآرِبَ خاصة، فيما نجد الآخرون مُتحدين في قراراتهم ومتعاونين في اقصاداتهم ومتفقين في سبيل بقائهم، وكان الأولى بالمسلمين تحقيق هذه المبادئ لما لهم من رصيدٍ إنساني وأخلاقي ضارب في عُمق التاريخ، وأتى الإسلام ليحثهم، ويؤكد على ذلك والقرآن ينادي بين أيدينا ليل نهار بأن تألفوا وتحابوا وتعانوا فمتى سيتحقق هذا الحلم الذي تنتظره الأجيال ومتى سنستفيد من عباداتنا في تقويم حياتنا وعلاقاتنا ونضرب بالأنانية عرض الحائط ونضع أيدينا بأيدي بعض نحقق الوحدة الإسلامية التي هي أملنا ومبتغانا وننشر الخير والسلام والحب في العالم أجمع.

تعليق عبر الفيس بوك