لبنان.. وأخيراً الانتخابات البلدية

عبدالنبي العكري

"المهم أن الانتخابات البلدية قد أجريت".. وقد يكون ذلك فتح الطريق أمام وضع حدٍّ لانسداد الحياة السياسية اللبنانية، وأبرز مظاهرها أن لبنان بلا رئيس منذ ثلاثة أعوام، وأن مجلس النواب قد مدد لنفسه مرتين دون إجراء انتخابات نيابية لدورتين. هذا محل إجماع المراقبين للانتخابات البلدية اللبنانية والتي تجرى كل ست سنوات. لقد أُتيحت لي الفرصة لمتابعة هذه الانتخابات من بيروت، حيث أجريت على أربع مراحل كل يوم أحد بدءا بيروت في (8 مايو 2016)، ثم الجنوب، ثم البقاع والجبل وأخيرا الشمال والهرمل في يوم الأحد (29 مايو 2016)؛ حيث شاركت في الرقابة عليها من خلال المتابعة ببيروت ضمن فريق الشبكة العربية لديمقراطية الانتخابات، وبالتعاون مع الرابطة اللبنانية لديمقراطية الانتخابات، عضو الشبكة.

وفي يوم الثلاثاء 31 مايو 2016، نظَّمتْ الشبكة والرابطة مؤتمرا صحفيًّا لعرض تقرير الشبكة حول مراقبتها للانتخابات البلدية، وأتبع ذلك بورشة عمل حول تطوير العملية الانتخابية اللبنانية، وجعلها أكثر ديمقراطية وشفافية ونزاهة.

ومن أهم ما جاء في تقرير الشبكة ملاحظة أن الانتخابات جرت رغم التحديات الأمنية والاستعصاء السياسي، وبدون حوادث خطيرة. لكن الأهم هو نزول قوائم انتخابية مستقلة باسم المجتمع المدني وشخصيات مجتمعية غير طائفية أو عائلية، وقادتها في بيروت المخرجة السينمائية نادين ليكي، وحصلت على نسبة معقولة من الأصوات، وإن لم يفز أحد فيها. كما لوحظت مشاركة نسبة أكبر من النساء والشباب ترشيحا وانتخابا. لكن أهم ما كشفت عنه الجولة الرابعة من الانتخابات البلدية في محافظة طرابلس، هو فوز قائمة وزير العدل السابق اللواء أشرف ريفي، في مواجهة قائمة "14 آذار" بقيادة الحريري، وبالتحالف مع رئيس وزراء لبنان الأسبق نجيب ميقاتي، وممثل عائلة كرامي العريقة فيصل كرامي في كسر لنمط الانقسام السياسي القائم.

لكنَّ الأخطر في هذه الانتخابات هو تصاعد الاستقطاب الديني المسيحي-الإسلامي والمذهبي ضمن أتباع ذات الدين مسلمين أو مسيحيين، وهيمنة عائلات الإقطاع السياسي على المشهد، وتصاعد خطاب الكراهية الطائفي والديني، حيث قال أحدهم بما معناه ما خص (علاقة) المسلمين في (بـ) انتخابات بدوائر المسيحيين؟ وقال آخر "ما خص المسيحيين في انتخابات بدوائر مسلمين؟"، في ضرب واضح لمبدأ المواطنة اللبنانية، وحق الناخب، أيّاً كان دينه أو مذهبه أو انتماؤه المشاركة في الانتخابات ترشيحا أو انتخابا، وهذا مؤشر آخر لتراجع مشروع اصلاح النظام السياسي اللبناني، بتجاوز نظام المحاصصة الطائفية على كل المستويات والذي خرج به مؤتمر الطائف، الذي بموجبه أنهيت الحرب الأهلية اللبنانية، وبدأت المسيرة السلمية، لكن المشروع انتكس، وإن لم يصل إلى حدِّ عودة الحرب الأهلية. ومن خلال ما خرجت به الشبكة العربية والرابطة اللبنانية من استنتاجات في ضوء مراقبة الرابطة اللبنانية لعدة دورات انتخابية نيابية وبلدية منذ تأسيسها في 2002، والشبكة العربية منذ تأسيسها في 2009، حيث راقبت الانتخابات النيابية اللبنانية لأول مرة في 2009، فقد كان هناك اتفاق على مصاحبة الانتخابات اللبنانية لظواهر سلبية. وأهمها: شيوع الرشوة، وتبادل المصالح وعدم وجود سقف للإنفاق الانتخابي والذي يبلغ مبالغ خيالية لا تتناسب مع القاعدة الانتخابية وحجم الدائرة الانتخابية، وانفلات الإعلام إلى حدِّ عدم مراعاة الصمت الإعلامي، حيث يستمر العمل الدعاوي والإعلامي حتى يوم الانتخابات وعدم وجو هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات، وتأخر مواعيد الترشح والانسحاب من الترشح. والأخطر الاستقطاب الديني والطائفي والعائلي مما ترتب عليه عدم فوز أي من المسيحيين والعلويين عن محافظة طرابلس في حين يمثلون نسبة مهمة من سكانها. وهناك ملاحظات إجرائية؛ كون الترشح والانتخاب على أساس فردي وليس ضمن قوائم حتى ولو يشكّل الأفراد قائمة، بما يعني أنَّ لكل مرشح الحق في وجود مندوب عنه في كل مركز اقتراع، فإذا افترضنا أنَّ قائمة تضم عشرين مرشحا لعشرين دائرة، ولكل منهم مندوب في كل مركز لاقتراع الدائرة فمعناه ان لهذه القائمة أربعمئة مندوب، فتصور وجود ثلاث أو أربع قوائم متنافسة، فمعناه المئات بل الآلاف من المندوبين، وحيث انهم يقبضون مكافأة لمهمتهم حيث أخبرنا بأنها بحدود 500 دولار للمندوب. فإن ذلك إلى جانب الإنفاق الانتخابي مثل الإعلانات والاجتماعات والمهرجانات والوجبات المجانية يشكل مبالغ ضخمة، كما يشكل لوبيّاً غير مشروع للمرشح.

ويُضاف إلى ذلك أنَّ العديدَ من الجمعيات الخيرية مرتبطة بأحزاب أو تحالفات أو الشخصيات السياسية، وهي بدورها تلعب دور المروج للمرشحين الداعمين لها.

ومما هو جدير بالذكر أنه وبموجب القانون (25/2008) بالمرسوم الاشتراعي للمجالس البلدية، فإن الناخب يصوت في الدائرة الانتخابية التي ولد فيها وليس الدائرة التي يقيم فيها، وهو بالطبع ما يشجع اعتبارات الانتماء الديني والمذهبي والعائلي، على حساب اعتبار الحقوق المترتبة على السكن ودفع رسوم بلدية، لقاء ما يتوقعه الساكن من خدمات. كما أنه وبموجب القانون المذكور فإن وزارة الداخلية هي من يتولى إجراء الانتخابات في جميع مراحلها من تقديم الترشيحات، والحملة الانتخابية فالاقتراع فالفرز فإعلان النتائج فتلقي الطعون، في بلد يعاني من الاستقطابات وتجيير الوطنية العامة لمصالح أخرى. كما لوحظ أن أزمة اللاجئين والمتمثلة في وجود ما يقارب المليون ونصف المليون لاجئ سوري، عدا الفلسطينيين والعراقيين وغيرهم، ألقت بظلالها سلبيا على الانتخابات كرد فعل على الضغط على المرافق وفرص العمل والاحتكاكات اليومية، بحيث طرحت شعارات عنصرية ضد الشوريين في الدوائر البلدية التي يتواجد فيها أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين ومن خلال رصد ومراقبة هذه الانتخابات والانتخابات السابقة حيث تتكرر ذات المظاهر السلبية وتتضح الخروقات والنواقص، فقد طرحت كل من الشبكة العربية والرابطة اللبنانية مقترحات لمعالجة هذه الاختلالات وجعل الانتخابات أكثر ديمقراطية وشفافية ونزاهة، وبما يُسهم في إصلاح النظام السياسي اللبناني، ومن هذه المقترحات: العمل بنظام القوائم بدل الترشح الفردي مع حق مجموعة من المرشحين الأفراد في تشكيل لوائح، واعتماد القاعدة النسبية من أصوات الناخبين لتحديد نصيب القوائم من الفائزين بعضوية المجلس البلدي للمحافظة، وتشكيل هيئة مستقلة لإدارة الانتخابات، ووضع ضوابط على الإعلام والإنفاق الانتخابي، وجعل مراكز الاقتراع سهلة الوصول وخصوصاً لذوي الاحتياجات الخاصة، وتقليل فترة المجالس البلدية من ست إلى أربع سنوات، واعتماد نظام الكوتا النسائية مؤقتا، حتى يتطور المجتمع والنظام السياسي، وخفض سن الانتخاب إلى 18 عاماً وسن الترشح إلى 21 عاما.

المهم أنَّ ذلك شكل مناسبة ليست لمناقشة النظام الانتخابي اللبناني فقط، بل أنظمة الانتخابات العربية، والتي عادة ما تكرس الانقسامات والتخلف، ولا تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية، وكذلك تحاور نشطاء مجتمعين عرب ولبنانيين من مختلف الأجيال للإسهام في اصلاح النظام الانتخابي العربي، وجعله أكثر ديمقراطية وشفافية ونزاهة.

تعليق عبر الفيس بوك