نظام الجبايات يصنع لنا مجتمعا جديدا!

العين الثالثة

د. عبدالله باحجاج

منذ بداية العام 2016، كل ما نشاهده أو نسمعه من أفعال وتصرفات حكومية، هو اقتطاع مبالغ مالية من المواطنين بهدف تمويل نفقات الدولة؛ سواء عبر رفع الدعم عن خدمات أساسية أو زيادة حجم الضرائب والرسوم القائمة أو التفكير في تطبيق ضرائب جديدة كضريبة القيمة المضافة، وبهذا تكون بلادنا اقرب الى تبني نظام الجبايات، وربما تسير إليه بخطوات متدرجة، والخطوات التي قطعتها حتى الآن تشغلنا كثيرا من موقعنا الاجتماعي الذي ننظر منه للتحولات والمتغيرات التي تحدث في بلادنا بعد هزة الأزمة النفطية الجديدة.. لماذا؟ لما لنظام الجبايات من أثر عميق على أحوال المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهناك شواهد تاريخية على أثر الاقتطاعات المالية الإجبارية على المجتمع، وامتداد هذا التأثير سياسيا، فهل تدري حكومتنا أنها تُؤسِّس قوة اقتصادنا الجديدة على نظام الجبايات المالية بدلا من القطاعات الإنتاجية؟

دَوْرنا هنا أن نلفت الانتباه السياسي للمسارات والاتجاهات التي تُتخذ تحت صدمة الخوف من المستقبل المالي؛ فحل الأزمة المالية عن طريق الجبايات، قد يُولِّد أزمات كثيرة أشرنا إلى مضامينها في المقدمة، وهى إشارة واضحة لا تُحتِّم استنطاقها بفصيح العبارات. ومن هنا، ينبغي كبح الجموح الاقتصادي نحو الحل المالي المتصاعد للازمة؛ ففيه تبدو كبرى المفارقات التي تستصعب على الفهم الاجتماعي استيعابها، ولن تستوعب، كلما كان الحل المالي من موارد المواطنين المتواضعة جدا، وثروات الاغنياء في أمن وأمان؛ وبالتالي سوف تتعمَّق أزمة الثقة بين الجانبين؛ لأنَّ الحل المالي من هذا المنظور يجعل المجتمع مكشوفا دون أية حماية من الدولة، فهل سيصمد مجتمعنا طويلا؟ مجتمعا قائما على حماية الدولة منذ تأسيسه؛ فكيف فجأة نرفع عنه الحماية؟ فهل فكرنا في النتائج المترتبة على فك الحماية؟ لابد أن تكون هناك جهة أو مؤسسة تفكر في مثل هذه التداعيات، ويكون صوتها أعلى من صوت الفريق الاقتصادي؛ فمهمتها ستكون الدفاع على التوازن الاجتماعي من أجل ديمومة الاستقرار، وهذ التوازن والاستقرار أساس أية دولة مثل بلادنا تشعر بحمولتها الاجتماعية الثقيلة، وستكون خلال المرحلة المقبلة أشد الحاجة إليهما في ظل الانفتاح (الجوي) وفتح أبوابها لمستثمرين غير تقليديين، قد أصبح الاقتصاد يوظَّف لصالح السياسية، بل ولصالح البعد (الثيولوجي) آن الأوان لهذه الجهة أو المؤسسة أن تَظْهَر من رحم الجنوح الاقتصادي نحو الحل المالي، فهذا الجنوح يحمل في طياته حالة غضب مرتفعة تصب جام غضبها الآن على كل ما يتعلق بالمواطن، فبالإضافة إلى ما سبق يتم التلويح من خلال نخب اقتصادية موالية أو نخب ينقصها الذكاء الاجتماعي أو تحت تأثير المجاملة والمحسوبية، برفع الدعم عن الماء والكهرباء والجازولين الذي تعتمد عليه كل الأسر العُمانية. إذن، إلى أين تريدون أن تسيروا بالمجتمع؟ وإذا ما فرضت ضريبة القيمة المضافة في ضوء تلك المسارات المالية، فهذا يعني مؤكدا أنَّ توجه فريقنا الاقتصادي يسير ببلادنا إلى صناعة اقتصاد قائم على الجبايات المالية لا على أساس نظام القطاعات الإنتاجية؟ وهو الطريق الأسهل للحصول على الأموال من جيوب المواطنين، لكن الطريق سيكون محفوفا بالمخاطر المتعددة...إلخ، وهذا يعني لنا أن تسعيرة الوقود التي وصلت خلال الشهر الحالي إلى 180 بيسة للتر، والتلويح بوصولها إلى 250 بيسة، لها علاقة مباشرة بنظام الجبايات أكثر من اي اعتبار آخر، فهل هذا النوع من الأنظمة تصلح لبلد كسلطنة عمان؟ التساؤل يتكرر معنا هنا، وسوف يتكرر كثيرا، وفي خضم الزيادات الشهرية المتصاعد لأسعار الوقود، المثيرة للجدل، نتفاجأ بمقارنة غير مبررة من قبل نخبة اقتصادية خاصة، لا تخدم أبدا ماهية المرحلة، وهى تقف- أي المقارنة- إلى جانب الفريق الاقتصادي شكلا ومضمونا؛ وذلك عندما قالت أمس الأول إنَّ السلطنة لم تصل إلى أسعار الوقود العالمية، وقد حدد هذا المستوى عند 360 بيسة للتر، لماذا التلويح بها؟ وترى هذه الشخصية كذلك أن هناك عدة عوامل تتحكم في التسعيرة؛ أبرزها هنا: عامل التشغيل، من نقل وتخزين وربح الشركات...إلخ، وهنا مجموعة تساؤلات تطرح نفسها بنفسها؛ أبرزها: هل عوامل التكلفة واحدة حتى يتم التلويح بالسعر العالمي للوقود؟ وهل ينبغي أن نفرق بين دولة نفطية منتجة ومصدرة له وبين دولة مستهلكة له؟ المساواة بين الدول ظالمة جدا، والتلويح بها يضلل الرأي العام، ويدفع بالجموح المالي إلى الجنون؛ فمثل هذه النخب تقفز فوق رسالتها الملقاة على عاتقها، وهى العمل على تحقيق التوازن بين البُعدين الاقتصادي والاجتماعي، ورفض الجنوح نحو نظام الجبايات على حساب القطاعات الاقتصادية أو حتى بالتزامن معه؛ فالدول التي تجنح لنظام الجبايات تفتقر لمصادر دخل أساسية، ولن يكون أمامها من خيار سوى اقتطاعات الأموال من دخول مواطنيها والشركات والثروات. وهذا النموذج من الدول لا يمت إلى بلادنا من قريب أو بعيد؛ فالدولة غنية بمواردها، وهى الآن توظِّف بعضها في الطريق الصحيح -مع الصين وقطر وإيران، كنماذج- رغم أنَّنا قد نسجل بعض الملاحظات على توجهات اقتصادية لم تعتد بهواجسها السياسية كما يجب، كما أنها غنية بمواردها المالية رغم وضعيتها المالية؛ فأموالنا تتبدَّد فوق صخر المناقصات المبالغ فيها ماليا كما أشرنا إلى ذلك في مقالنا الأخير. والمثير في توجهاتها إعفاء طبقة الأغنياء من المشاركة في تحمل الأعباء المالية، وهم الذين ينبغي أن يبادروا من تلقاء أنفسهم، فثرواتهم عمرها الزمني 45 عاما فقط أي عمر نهضتنا المباركة، ليست هناك حكمة سياسية، ولا مصلحة عليا، تجعلنا ندفع بالمجتمع إلى مواجهة تلك التحديات بمعزل عن دولته؟ فالمواطن كان حتى قبل سنوات قليلة راتبه 80 ريالًا في القطاع الخاص، ثم ارتفع إلى (100، 120، 140، 200، 325) ريالًا.

وفي أحد مقالاتنا الأخيرة "التغيير الاجتماعي غير المخطط.. نتائجه ومآلاته" حدَّدنا عدد العاملين والموظفين في القطاعين الخاص والعام وكذلك المتقاعدين فيهما، ووقفنا عند أرقام مُذهلة تعكس لنا عدم قدرة المواطن على تحمل نظام الجبايات -يراجع المقال- إذن، فأي مجتمع نستهدف صناعته بنظام الجبايات؟!

... إنَّ حجمَ تلك الرواتب المتدرجة سالفة الذكر، يعكس لنا إشكالية مُتأصلة في التفكير، وهذه الإشكالية ينبغي أنْ لا تستمر خلال المرحلة الراهنة؛ فتحدياتها كبيرة، ومختلفة عن كل سابقاتها، وهى لا تنحصر في فقدان حقوق اساسية ولا خدمات مدعومة من الدولة، وإنما في وجود جيل من الشباب طموح قد لا يجد من يدمجه أو يضعه على طريق تحقيق ذاته وطموحاته بعد انطلاق قطار النيوليبيرالية بلا عودة، فالنيوليبرالية ترفع يد الدولة عن حماية مجتمعاتها، وتضع مصائر هذه المجتمعات تتلاعب بها الشركات المحلية والعالمية متعددة الجنسيات والاهداف السياسية، فأي مجتمع تتم صناعته الآن؟ الإجابة واضحة؛ فهناك ديناميات "قوى" جديدة وقديمة داخلية وخارجية -إقليمية وعالمية- سوف تسعى جاهدة لأن تحل محل الدولة، لكن لصالح من؟ هل لصالح ثوابت الدولة وأجندتها الوطنية أم لصالح أهداف خاصة وخارجية، لابد أن نطرح هذا السيناريو بهذه الشفافية؛ لأن النتيجة المتوقعة إذا تنصَّلت الدولة عن دعم مجتمعها، وقارنت مكونها الديموغرافي بالمكون الديموغرافي للدولة الغربية مثلا، ستفقد المجتمع، صحيح القطار انطلق، لكن لابد أن نقيم انطلاقته حتى نستدرك مساره قبل فوات الأوان، ودون ذلك، فلن نستبعد أن يبادر الفريق الاقتصادي إلى اقتراح إنشاء وزارة خاصة تحت اسم وزارة الجبايات بديلا عن وزارة المالية، لابد من تأسيس تلك المؤسسة -الكابحة للجموح- من مفكرين في علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد لدراسة السياسات المالية الراهنة والمقبلة التي نرى فيها تراجعا عن جوهر معظم المسارات المالية المتعارف عليها منذ انطلاقة مسيرتنا بلادنا المباركة عام 1970 من أجل الحفاظ على سلامة وقوة الحمولة الديموغرافية للدولة العمانية المعاصرة، وهذا لا يعني أننا ضد إصلاح نظام السياسات المالية، بل العكس مع هذا الإصلاح، لكن من منظور تعزيز القوة الاجتماعية وبناء اقتصاد وطني قائم على القطاعات الاقتصادية الواعدة التي تنعم بها بلادنا ولله الحمد.

تعليق عبر الفيس بوك