سارق الحبيبات..

عائشة البلوشية

انضمت إلينا في الفصل الدراسي الثالث، كنَّ ثلاث معلمات من ثلاث محافظات مختلفة، حققن في الكلية المتوسطة حينها أعلى المعدلات في تخصص اللغة الإنجليزية، وعملن معلمات للمادة، وﻷنّ تقارير كفايتهن كانت "ممتاز"، تم تكريمهن حينها بابتعاثهن إلى جامعة السلطان قابوس ليحصلن على درجة البكالوريوس، ومنذ أن وقعت عليها عيناي أحسست أني أنظر إلى خلطة من العِفة والبراءة والسماحة مُتجسدة في جسد آدمي، كان وجه هذه الإنسانة متوشحًا بابتسامة أمل على الدوام، بمجرد أن تنظر إليها وتسمتع إلى حديثها بتلك اللهجة البهلاوية الجميلة، يعتمرك إحساس بأنّ الدنيا لازالت بخير، ومضت الأيام وجاء حفل التخرج في عام 1992م، ونحن مجموعة من الصديقات رغم قلة عددنا، إلا أنّ حبا عظيما جمعنا سوية، فظل ذلك الرابط الروحاني مستمرًا إلى يومنا هذا....

تمر السنون بحلوها وحلوها فكل شيء من الله حلو إذا سلمنا بقدرية كل ما يأتينا منه سبحانه، وتبدأ نعمة الهواتف الذكية تنفحنا بتطبيقاتها المُختلفة، حتى أنعم الله علينا بمن يسخر العقل وينشىء تطبيق الـ"واتس آب"، فحمدت الله على هذه النعمة التي جعلتنا جيراناً افتراضيين لمن كنا نفتقد، وبعد أن تواصلت مع بعض الزميلات وتأكدت من وجود التطبيق لديهن، كانت مفاجأتي لهن بمجموعة افتراضية تضم دفعتنا من تخصص اللغة الإنجليزية، أطلقت عليها "بنات الجامعة"، وكم كنّ سعيدات بهذه المفاجأة غير المتوقعة، مجموعة مُميزة تضم عضوات من جميع المحافظات، من شمال عُمان الغالية وحتى جنوبها، وبدأن في السؤال عمَّا آلت إليه الحال بعد هذا العمر، وعند بداية إنشائي لهذه المجموعة لم يدر بخلدي أنني قد أفقد أيًا من عضواتها، ليس تجاهلا للقدر والعياذ بالله، ولكنها سعادة المُحب بمن يحب عند اللقيا بعد فراق، فيخلده في قلبه ودنياه...

جُند الله يسكنون أجسادنا ويحيطون بنا، ينتظرون الأمر من الله العلي القدير، والمرض بكل درجاته وألوانه جُند من جنود الله، يسلطه الله على من يشاء من عباده إما لمغفرة ذنب أو لرفع درجة، ولشدة تعلقنا بمن نحب دأبنا على أن نقول لمن يبتلى بالمرض "ما تشوف شر"، وذلك لبشريتنا الضعيفة عن إدراك كنه الابتلاء، فما أدرانا أي تمحيص يمر به وأيّ اختبار يمر خلاله؛ وهذا كان حال زميلتنا التي هاجمها السرطان منذ سنوات خمس قد تزيد قليلاً وقد تنقص، هذا المرض الذي يهاجم واحدة من كل ثمان نسوة، فيسرق منهن الراحة والصحة والهدوء، ولا يرعوي يفتك بأيّ عمر يحتل جسده، ويظل في حرب ومقاومة، وألد أعدائه قوة الإيمان بالله وإرادة الشخص في دحره، ويستمر في كره وفره ما بين انحسار وظهور، وكمون ومباغتة، واختباء وانتشار، حتى يسرق ضحيته من بين أحبابها، فنفقد الأخت أو الأم أو الزوجة أو الصديقة أو القريبة؛ وهذا ما فعله بنا نحن مجموعة "بنات الجامعة"، ظل ينتقل من عضو إلى آخر في جسدها، فسرقها منّا على حين انتظار منِّا وشوق لعودتها من رحلة علاجها الأخيرة في سنغافورة، وفي حياتي كلها لم يمر عليّ بشر في صبرها وجلدها، حيث كانت زيارتنا الأخيرة لها بمستشفى جامعة السلطان قابوس، وتلك الابتسامة الحانية لا تفارق وجهها، رغم تلك الأنابيب التي تخرج من جسدها الضعيف، وكعادتها تبث الأمل فينا جميعاً وتلقي بالتعليقات والضحكات علينا، وخرجنا من هناك ونحن لانزال نطمع في مزيد من الوقت معها، ولكننا خجلنا من زوجها وأسرتها الذين كانوا ينتظرون في الخارج، لم نكن نعي بأنّها المرة الأخيرة التي ستجمعنا بها كمجموعة، فبعدها توحش المرض وانتشر محاولاً انتزاع أنة تأفف منها، ولكنها كانت أقوى منه، غلبته بالصبر وبقوة الإيمان بأن من سلطه عليها سينصرها على ألمها ووجعها..

يوم الأحد الخامس عشر من شهر شعبان عام 1437 للهجرة، كانت المركبة تشق عباب موج السيارات في شارع السلطان قابوس، مُتجهة إلى الكلية التقنية العليا في الخوير بمحافظة مسقط، كنت أنظر إلى صفحة القمر المُنير، وأقول في نفسي لم يبق على رمضان سوى القليل، وتذكرت الرسائل المُتبادلة هذه الأيام حول حكم الدعاء المُنتشر "غير فاقدين ولا مفقودين"، فأحسست بانقباض غريب، فحوقلت ورددت: "اللهم سلمنا لرمضان وسلمه لنا"، وبعد أداء فريضة المغرب بجامع السلطان سعيد بن تيمور وصلت إلى حفل تخريج أطفال إحدى رياض الأطفال المقام على مسرح الكلية التقنية العليا، حيث انتهى الحفل المصبوغ ببراءة الأطفال وعفويتهم الفطرية، قمت بتوديع مالكتي الروضة وخرجت، وما أن وصلت المنزل حتى فتحت هاتفي ﻷصعق بخبر وفاة "أم ريان"، لم أصدق عيني وجلست أحاول التواصل مع أهلها علي أجد من ينفي ما وصلني، ولات حين مناص، رحلت أختنا الحبيبة فماذا عساي أن أقول لمجموعتنا الافتراضية؟ هل أقول بأننا لن نرى مداخلات غاليتنا عميرة؟ لن نضحك على تعليقاتها باللهجة العامية؟...

كنت اتفقد تغريداتها في التويتر فدمعت عيني عندما قرأت: "أحرص على أن تجعل كل من يعرفك يحزن لرحيلك، ويدعو لك وإن استطعت أن تضم قائمتك دابة الأرض والشجر والحجر فافعل، فما أصعب أن يفرح الناس لرحيل شخص"، والله كان حزننا بفقدك عظيماً أيتها الغالية، كتبتها تغريدة ولكنها تحققت فلم يبق شيء اقترب منك إلا وتلبسه الحزن، حتى تلك السبحة التي كانت بين أصابعك، لكننا لا نقول إلا ما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله، عظم الله أجرنا في مصابنا وأثابنا على صبرنا على فراقك يا عميرة بأن يجمعنا بك في الفردوس الأعلى كما جمعنا في هذه المجموعة؛ ذلك المكتب بمدرسة عائشة الريامية كان حزيناً يوم تقاعدك، ولكنه اليوم يئن لفراقك الأليم، عميرة يا أم ريان ستظلين حية باقية في قلوب جميع الطالبات اللائي تعلمن على يديك، وقلوب معلمات مدرستك اللائي حظين بتوجيهاتك الرائعة، وفي قلوب جميع من عرفك وأحبك، وستكونين دائمًا تسكنين بين صديقاتك "بنات الجامعة"، فسلام الله عليك ورحمته ومرضاته وبركاته أينما كنت الآن...

إلى كل فتاة ترنو لمستقبلها بعين الأمل، ولكل امرأة تهتم بأسرتها ونفسها، لا تنسي نفسك في خضم مسؤولياتك، أدخلي على محركات البحث واقرئي وثقفي نفسك حول أنواع السرطانات المختلفة وبخاصة سارق الحبيبات (سرطان الثدي)، واذهبي للفحص الدوري بحسب عمرك، فالتشخيص المُبكر يجنب محبيك ويلات القلق والفراق؛ والمفاجئ أن هذا السارق بدأ بالانتشار بين الرجال أيضًا!

توقيع: "ملائكية أخلاقها صبغت بشرية خلقتها، فأضحت ملاكًا في صورة بشر، فطوبى لها صبرها على ما جرت به المقادير، وجزاها الله عنَّا خير الجزاء".

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة