تفعيل المشترك في وجه جحيم الفرقة

علي فخرو

في لبنان، حيث إبداع طرق التعايش بين مكونات المجتمع لا يتوقف عن التَّجدد والتنوع، قررت مجموعة من المواطنين الاحتفال بعيد مريم العذراء بصورة مُشتركة فيما بين المسيحيين والمسلمين.

تكمن عبقرية هذا الإبداع في الاستفادة من مكانة مريم العذراء الدينية، كأم للمسيح عيسى عليه السلام وكرمز للطهارة والألق الروحي، في الديانتين، الإسلام والمسيحية، لتقريب أتباعهما ولبناء مشاعر القبول بالآخر والتعايش معه في سلام ومحبة وفرح وانفتاح.

وهكذا ألفت الأناشيد المشتركة والخطابات المشتركة للترنم بها وإلقائها في حفل مشترك حضره المسيحي الماروني والأرثوذوكسي جنباً إلى جنب مع المسلم السني والشيعي والدرزي ليتبادلوا أدوار القساوسة والشيوخ ويصدحون بكلمات الأناشيد نفسها المشتركة في الاحتفال بذكرى البتول العذراء الطاهرة.

يقول أحد المسلمين المشاركين: «لقد جاء ذكر مريم العذراء في القرآن أكثر من ذكرها في الإنجيل، ورفع مقامها في القرآن من خلال تسمية سورة كاملة باسمها، فكيف لا تكون ملكاً لنا كما هي ملك لإخوتنا المسيحيين؟ ذلك رد مفحم رائع على تعامل الجهاد التكفيري الهمجي اللاإسلامي مع الإخوة المسيحيين في العراق وسوريا وغيرهما من بلاد العرب والإسلام.

وأنا أستمع لأخبار ذلك الحدث اللبناني جال في ذهني هذا السؤال: لماذا لا توجد مراسم عاشورائية مشتركة بين الشيعة والسنة وأتباع بقية المذاهب الإسلامية الأخرى وذلك لإحياء ذكرى ثورية وبطولة واستشهاد الإمام الحسين (ع) في كربلاء؟ ثم ألن تكون المراسيم المشتركة، بلغة مشتركة وفهم موحد وفخار بالبطولة الحسينية الواحد، أحد المداخل لعزل الطائفيين المتعصبين المجانين المتواجدين في كل مذهب وللشعور بالمشترك، وللفهم المتبادل، ولتجديد الأخوة التاريخية؟

نحن هنا معنيون بمحتوى ولغة الخطاب الرزين العاقل، بتجنب الأساطير والتخيلات التي حيكت من قبل البعض لاستدرار الدموع، بالتركيز على أخذ العبر وتعلم الدروس، بمواجهة ممارسات الظلم القبلية التي نهى عنها الإسلام بقيم عدالة الإسلام وسماحته ومتطلبات بناء الأمة الروحية الواحدة.

إنّ ذلك التوجه وتلك الممارسات المشتركة لن تساعد فقط في تجسير الفجوة التي تحفرها قوى الشر في الخارج وقوى الطائفية في الداخل بين مذاهب السنة ومذاهب الشيعة، وذلك من أجل مصالح سياسية حقيرة أو انتهازية، وإنما ستساعد أيضاً المهمة الإصلاحية التي نادى بها كثير من العلماء المتنورين والمجتهدين والمفكرين الشيعة من أجل تطوير وتطهير ما لحق بمراسيم العزاء الحسيني عبر القرون من ممارسات خاطئة وخطابات حادة. والواقع أن المراجعة الموضوعية لما دار من نقاشات ومواقف بشأن نقاط الإصلاح التي آثارها الإصلاحيون تؤكد أن ما نطرحه من وجهة نظر سيساهم في ترجيح كفة الاعتدال والسمو بالمراسيم الحسينية لجعلها تخدم كل المسلمين، وتساهم في بناء مسيرة التعايش السلمي الأخوي المشترك في أرض العرب وبلدان المسلمين كافة.

إن الحسين (ع) ليس ملكاً للشيعة فقط، إنه ملك لكل المسلمين، بل لكل العرب: كسبط للرسول (ص) وكبطل ثوري استشهد من أجل قضية، وكبطل مأساوي عاش بين خذلان البعض له وتنكيل البعض الآخر به وبأهله، فسطر ملحمة كبرى في تاريخ هذه الأمة لا تقل في عمق معانيها ودلالاتها عن الملاحم الكبرى التي سطرها تاريخ البشرية.

إن المراسيم العاشورائية المشتركة ستستدعي أنبل ما في التاريخ المشترك وأفضل ما في التلاقح الفكري والفقهي المشترك، الذي لخصه مصطفى الشكعة في كتابه «إسلام بلا مذاهب». يقول مصطفى: «وهكذا نجد تلك الروابط الأكيدة التي تجمع بين السنة والإمامية في شخصي مالك وجعفر، وبين السنة والزيدية في شخصي أبي حنيفة وزيد، وبين السنة والمعتزلة في أشخاص الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وبين الزيدية والمعتزلة في شخصي زيد وواصل، وبين الزيدية والإمامية في شخصي الأخوين زيد ومحمد الباقر، وبين السنة والخوارج في شخصي البخاري وعمران بن حطان الذي أملى الحديث على البخاري، بل الخوارج والإباضية - بصفة خاصة - هم أول من جمع الحديث".

ذلك التلاقح الفكري وتلك العلاقات الإنسانية الأخوية المتناغمة يمكن إرجاع ألقهما أثناء أيام مراسيم عاشوراء، عندما يسمع المسلم خطباء ومُتحدثين من السنة والشيعة، عندما تصبح المجالس والمواكب لملايين الشيعة والسنة، أي يصبح الحدث حدثاً إسلامياً وتصبح الذكرى ذكرى إسلامية وتصبح العبر الحسينية عبراً إسلامية. عند ذاك سنقترب من زوال التوجس ومن انتهاء العزلة، وسننتقل من المجاملات والتمني إلى دفئ الفعل وصدقيته.

ما سيُريح الأرواح الطاهرة لضحايا الجهاد التكفيري المتوحش من مسيحيين ومسلمين هو ما حدث في لبنان وما يجب أن يحدث في طول وعرض بلاد العرب، وكل أماكن تواجد الإسلام.

تعليق عبر الفيس بوك