الحياة الاستهلاكية والإنسان المعاصر

أمل السعيدية

تقترح الحياة الاستهلاكيّة اليوم أنشطة ووظائف وأشكالا وعلاقات بعينها للوصول إلى الكمال المفترض وإلى ما يروج له دائماً: الطمأنينة والراحة والأمان. ولهذا عوامل وأسباب بات من السهل دراستها. يحكى في قصة شهيرة أنّ رجلاً كان يذهب كل يوم إلى الصيد، فيصيد سمكة واحدة ويعود للبيت ليأكلها برفقة زوجته، وهذا حاله كل يوم، فقال له النّاس الذين شاهدوه وهو يصيد الأسماك، لماذا لا تفكر في تجارة السمك، تأتي كل يوم وتصيد مجموعة من الأسماك وتبيعها، ثم توفّر شيئاً من الربح لتشتري قارباً، وتزيد من عدد الأسماك وتبيعها وتربح أكثر من قبل. من ثمّ توظف عمالاً معك يقومون بصيد السمك وبيعه وأنتَ تأتي لتصيد سمكتك التي تأكلها بينما تزداد أرباحك. تعجب الرجل، لماذا سيقوم بهذا كله، إن كان هدفه في النهاية أن يأكل سمكة واحدة كل يوم برفقة زوجته؟ وهو ما سيحصل بعد هذا العناء كله. هذه صورة واحدة عزيزي القارئ عن النمط الذي يحاول الناس أن نتبعه كلنا بغض النظر عن قيمته بالنسبة لنا.

تعالوا نطرح مثالاً آخر، لماذا نحترم المحامي أو المهندس أكثر من الفلاح؟ لأن المجتمعات الجديدة ووفقاً لسلطة التجار وأصحاب رؤوس الأموال اقترحوا ذلك، لكن قيمة الفلاح في الحقيقة لا تقل شأنًا عن أي وظيفة أخرى بل إنّها وظيفة عظيمة توفر الغذاء و تزرع الأرض. لماذا يخجل إذن كثير من الناس من ماضيهم الذي قضوه في المزارع؟ أيجب أن يقضي الإنسان طفولته في الشانزليزيه حتى يكون جديراً بالاحترام؟ المهم بعد هذا كله أن يبدأ الإنسان في اكتشاف النمط الذي يريده فعلاً لا ما تقترحه وسائل الإعلام ولا الإعلانات التي يهمها جيبك أكثر مما تهمها أنت كإنسان عاقل ويمتلك إرادة حرة. يقول زيجمونت باومان إنّ هذه الطريقة في فهم العالم والمتمثلة في شراء السلع، والأعلان لها من قبل المؤسسات والشركات المصنعة لها، غيّرت كثيراً في شخصية الإنسان المعاصر وفي طريقة فهمه للحياة، حتى أن هذا المنهج دخل إلى العلاقات الإنسانية، فالإنسان اليوم يخاف من الزواج أكثر من السابق، لأنّ ما يهمه في الحقيقة استنفاد شعور جذوة بداية الحب في كل مرة، ويخاف أن يتعرّض لخسارة فرص رومانتيكيّة جديدة بعد مضي قليل من الوقت، تماماً مثلما تتغير موضة القمصان والفساتين. يمتلك هذا الإنسان اليقين بأنّه سيشعر بالملل من هذه العلاقة بعد مضي قليل من الوقت. ليس هذا فحسب فإنّ مفردات الاقتصاد دخلت بشكل او بآخر إلى العلاقات الإنسانية، فنجد أنّ الآباء يستخدمون مصطلح "الاستثمار". احتفط باقتباس لا أذكر صاحبَه تقول فيه الكاتبة: "ولكن الطفل أيضاً أشبه بصندوق إيداع وإن بدا ذلك أنانياً. تستثمر فيه وقتك وتضحياتك وتوقعاتك أملاً أن يقر لك بالعرفان مستقبلاً. كنت قد تجادلت البارحة مع أختي حين قلت بالحرف "الطفل عبارة عن استثمار" قالت إنّها فكرة مريعة، لا يمكن أن تفهم الأمومة من خلال مصطلحات اقتصادية ومهما يكن من أمر لا تقولي شيئاً من ذلك أمام ليتو". نعم أنّه مريع أن نربي أطفالنا من أجل خدمتنا في المستقبل وأن نستمر في ابتزازهم طيلة الوقت باسم سلطة الأمومة وسلطة الأبوة.

إن إنسان اليوم أكثر من غيره عرضة لهذه المواجهات، فالإعلانات في كل مكان، في وسائل التواصل الاجتماعي التي توهمه باتصاله الآمن في الحياة وفي مكان العمل وعلى وسائل الإعلام التقليدية، وباب النجاة الوحيد الذي يمكن لهذا الإنسان أن يفتحه: أن يتروى بعض الشيء، وأن يهدأ أمام سعار البيع والشراء، وأن يتعرف على ذاته ليمكنه بعد ذلك أن يختار ما يناسبه هو. أن يصيد السمكة التي تعجبه وبالطريقة التي يختارها أو التي يفهم الظروف التي دفعته لها فهماً حقيقياً يمكنه من استيعابها والتطلع لما هو أفضل منها. وأجد شخصياً أن خيار القراءة ومتابعة الفنون قادر أحياناً على أن تصنع فارقاً فيما يتعلق بهذا الموضوع، فالفنون ترطب روح الإنسان وتوقظه وتنبهه وتدفعه للتأمل في العالم.

تعليق عبر الفيس بوك