سطوة الإعلام.. والتوظيف التربوي

أمل الجهورية

يشكل الإعلام اليوم المصدر الأكثر تأثيراً في حياتنا المتسارعة والمتصادمة بأحداثها المتنوعة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية؛ حيث أصبح هو المعلم والمربي، ومصدر التسلية والترفيه، وتحت سيطرته يتم توجيه الكثير من المسارات، ومن أخطرها "التربية" التي أخذت تنسل تدريجياً من قبضة الأسرة والمسجد والسبلة والمدرسة إلى منصّات التواصل الاجتماعي وشاشات الفضائيات، والهواتف المحمولة مما جعل "ناقوس الخطر" يعلن ضوءه الأحمر حيال الوضع الراهن لأجيال تتربى وتنشأ فكرياً وأخلاقياً على الإعلام الذي يظهر كل يوم بوجه جديد، وفي كل فترة بأسلوب مبتكر، وفي كل مرحلة بتقنية مدهشة، متجاوزاً حدود الزمان والمكان، مما جعل التربية التقليدية تفقد سيطرتها، وجعل الإعلام التنشئة الاجتماعية، والتأثير والتوجيه، وتربية الصغار والكبار معاً.

إنّ التأثير الفعّال الذي أحدثته وسائل الإعلام في حياتنا يظهر بشكل منظم ومخطط له بعناية، وذلك لأسباب عدة منها، تنوعها ما بين مقروء ومسموع ومرئي، وكذلك لجاذبيتها، ولتمكينها المتلقي التفاعل معها، ووفرة وسائلها على مدار الساعة، وسهولة استخدامها في أي مكان بتكلفة زهيدة وتوفيرها الخصوصية للمتلقي، وتحررها من الرقابة، واختراقها جميع المجالات بلا استثناء، سواءً القيمية أو الاجتماعية أو السياسية أوالاقتصادية، لهذه الأسباب وغيرها جعلت أثر الإعلام على المستوى العالمي يفوق أثر المدرسة والأسرة وجميع مؤسسات المجتمع الأخرى، وهذا الأمر يجعل عملية صناعة الإعلام حساسة للغاية ويجب التوقف أمامها بعناية وموضوعية؛ لتكون مقننة وذات أهداف محددة وواضحة، ويكون تأثيرها في المتلقي متوافقاً مع متطلبات المرحلة ومتّسقاً مع السياسة العامة وطبيعة التكوين الفكري والاجتماعي الذي نعيشه.

وبعيداً عن الرقابة التي تحررت منها وسائل الإعلام الحديث أصبحنا نقع تحت وطأت تأثيرها السلبي والايجابي سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر، ويظهر التأثير السلبي من خلال تغيير الفكر وتوجيه السلوك وهذا يظهر بشكل عام من خلال قدرتها على خلخلة فكر المجتمعات وقيمها ونسيجها المترابط، وإعاقة حركة نهوضها وتقدمها وتنميتها البشرية. وتأثيرها في تقليل قدرة الإنسان على أن يبذل جهداً عقلياً منظماً لتطوير نفسه وبناء ذاته، وتطوير مجتمعه، والعمل على تحويل طاقات الشباب العربي خاصة وولاءهم للجوانب السلبية في الثقافات الأجنبية، متجاهلة في المقابل قيم العمل وأخلاقه، والبحث العلمي وأدواته، والالتزام المجتمعي ومؤسساته، والحراك الحضاري وآلياته.

إن هذا التأثير الذي أحدثته وسائل الإعلام في أجيالنا والتي أصبحت إحدى ضرورات الحياة التي تلازم النشء في كل بيت و لا يمكن الانفصال عنها بأي حال من الأحوال في العمل، والمدرسة، وفي اللقاءات الأسرية، يجعل من "التربية الإعلاميّة" ضرورة ملحة للحد من التأثير السلبي لاستخدامها من خلال غرس ثقافة الانتقاء والوعي لدى المتلقي، والمربي في آلية التعامل مع الرسائل الإعلاميّة التي تنفذ إليه عبر وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، وهذا الأمر لن يتأتى إلا بوجود جهود متكاملة تبدأ من المتلقي وتنتهي بالمحيطين به، ولابد أن تكون هناك أدوار ومسؤوليات للأسرة والمجتمع في العمل على إيجاد جيل قادر على انتقاء المضمون الذي يتعرض له، ويؤثر فيه، ويتفاعل معه، ويشبع احتياجاته. فكلما كان المتلقي واعياً استطاع أن يمارس انتقائية ناجحة ومثمرة للمضمون الإعلامي المناسب الذي يؤثر إيجاباً على فكره وسلوكه.

ويمكن تحقيق أهداف التربية الإعلاميّة من خلال التأكيد على الدور التكاملي لكل من (الأسرة، والمدرسة، والمجتمع) في بناء الوعي لدى أفراد المجتمع، وبخاصة الأطفال والشباب، لصقل مهارات التلقي، والتعامل الناجح مع وسائل الإعلام، وتكوين رؤية تربويّة ناضجة، للتمييز بين المفيد والضار، والعمل على ترسيخ مفهوم الرقابة الذاتية، وتعزير الثقة بالذات، كما أنّ هناك مسؤولية للأفراد في الحد من الثقافة الهابطة والإعلام السلبي، وذلك من خلال الحد من التعرّض لهذه الوسائل، والاتصال الشخصي للأفراد فيما بينهم لتدعيم هذا السلوك، والتواصل الفردي الشخصي عبر وسائل الاتصال، مع ملاك الوسائل الإعلاميّة والمسؤولين عنها، لتوضيح وجهة النظر في محتوى الثقافة الهابطة، ومضمون الإعلام السلبي، وتأكيد المشاهد أو المتلقي على حقه، وحق المجتمع في الإنتاج الجيّد والإعلام الإيجابي، وحمايتهم وحماية أطفالهم من الإسفاف والابتذال، كما أنّه من المهم أن يلازم هذا كله اهتمام بغرس الوازع الديني في نفوس النشء والذي يشكل سداً منيعاً بينهم وبين ذلك الغزو الفكري الذي تبث سمومه بأشكال متنوعة وجاذبة عبر وسائل الإعلام الجديد.

ونؤكد هنا أنّ مفهوم التربية الإعلاميّة الذي تمارسه مدارسنا عبر منافذ الإعلام التربوي المختلفة سواء في إطار المدرسة أو على مستوى المحافظات التعليمية يجب أن يتّسع إطاره من مجرد التركيز على الترويج للأنشطة والفعاليات والمسابقات والإنجازات على مستوى الأنشطة التربوية والتعليميّة، إلى العناية بتمرير الرسائل الإعلاميّة الهادفة التي تحتاجها المرحلة الحالية التي يعيش أجيالها تحت وطأة الوسائل الإعلاميّة الحديثة والتي تعمل على تكوين أفكارهم وتوجيه سلوكهم؛ بحيث تعنى التربية الإعلامية بتثقيف الناشئة بسبل فهم الأمور وتقديرها، وسبل التعايش مع الآخرين، واستيعاب مقتضيات العصر الحديث، وآليات التفاعل مع التقنية الجديدة بأشكالها المتعددة، وتمكينهم من المهارات التي تعينهم على حسن التمييز والانتقاء، وعلى المواجهة عوضاً عن الخوف والاستسلام أو الانعزال والرفض أو التبرير، أو إسقاط المشكلات على الغير، كما يجب أن تعنى التربية الإعلاميّة بمساعدة الطلاب خاصة في مختلف مراحلهم العمرية والدراسية على فهم حقوقهم وواجباتهم، وتقدير قيم الشورى، والإخلاص، وحب الوطن، والانتماء الصحيح، واحترام الآخر، والحرية العادلة، ومواجهة الشائعات والتضليل، ومحاربة الانحرافات الفكريّة ، والعمل على تكوين نموذج القدوة الحسنة لدى الطلاب في المدرسة، وامتلاك الطلاب مهارات الخطابة والعرض والحوار وحسن تقدير الإنجازات، والتحمل والصبر، وتعزيز المفاهيم الاجتماعية والصحية لديهم.

ونعول على التربية الإعلامية في مؤسساتنا التعليمية، أن تعمل على استثمار مختلف الوسائل للعمل على تعزيز تعامل النشء مع الإعلام بالطريقة الصحيحة من خلال المعلم والمناهج الدراسية، والإذاعة والصحافة المدرسية، والأنشطة اللاصفية والمعارض، والمهرجانات والمناسبات من أجل إعداد جيل قادر على التفاعل مع مستجدات عصره باقتدار مستفيداً من السمين من رسائلها، طارحاً للغث منها، يملك اتجاهات إيجابية نحو الناس ونحو الأشياء ونحو العمل والإنتاج، ومشاركاً فاعلاً في علاج مشكلات بيئته ومجتمعه، وقادراً على تحقيق شروط المواطنة السليمة في تصرفاته وسلوكياته برمتها، مدركاً أنّ ما يتوافر بين يديه من وسائل إعلاميّة هي أدوات يمكنها أن ترتقي به إذا ما أحسن التعامل معها.

amal.shura@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة