حينما تكون أجسادنا مكبا للنفايات..!

سلطان الخروصي

"خيرُ الناس أنفعُهم للناس" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كلمات يتزين بها الموقع الإلكتروني للهيئة العامة لحماية المستهلك، وهي شامخة على رؤوس عُبّاد المال الذين لا يتقون الله ولا الحس الإنساني على أكتاف الناس وحياتهم دون الأخذ بعين الاعتبار ثقة المستهلكين التي منحوها إيّاهم وأغدقوا عليهم أبابيل من الريالات، ودون الاكتراث بالتسهيلات الاستثمارية والتجارية التي قدمها الوطن ممثلا في تبسيط الإجراءات (الماراثونية) التي يتكسر عبر قنواتها ظهر التاجر الصغير والمبتدئ، ودون الاكتراث بالمواثيق الإنسانية أو المرتكزات الدينية أو الثوابت التجارية الشريفة، قد لا يختلف اثنان أنّ الاستهلاك اليومي لمختلف جوانب الإنتاج يُعدّ غرضا أساسيا للبشرية في جميع أصقاع العالم؛ فحينما يتقصد المرء اقتناء غاية ملحة كالمأكل أو المشرب أو الكساء، أو يقتني صنوفا من الكماليات كمظهر يعكس الرفاهية فإننا بذلك نعني الاستهلاك بمفهومه الدقيق الذي يعيه عموم الناس، إلا أن تلك الغاية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمتانة الاقتصاديات الوطنية، كما أنّ جودة الاستهلاك لا تتحقق إلا بوجود قاعدة عريضة قوامها الوعي الاستهلاكي من قبل المستهلكين أنفسهم؛ فلا يمكن أن تُلجَم طموحات المستثمرين والتّجار عن تأسيس مملكة من المال إن كان المستهلك لا يعي أبسط المفاهيم والمفردات والسلوكيات الاستهلاكية التي تحفظ حقه وتصون العمود الفقري للدولة من التهشّم والصدمات التي قد تؤول في نهايتها إلى ترهل فاحش نحو البطالة والعجز المالي لميزانية الدولة، والتي بدورها ستنعكس حتما بصورة سلبية على الطموحات والمشاريع التنموية الوطنية.

والمراقب لإحصائيات (ظاهرة) الغشِّ التجاري في وطننا الحبيب وبعد خمس سنوات من النجاحات والإنجازات منذ تأسيس الهيئة العامة لحماية المستهلك (2011) نلاحظ وباستغراب شديد أن هذا المؤشر يسير بوتيرة تصاعدية وبصورة سريعة عبر استكشاف العديد ممن تنخر أفعالهم في أعمدة الاستقرار الاقتصادي للبلاد؛ لتخلق بلبلة اجتماعية وشرخاً عميقاً في ثقة المواطن بمؤسسات الدولة المتنوعة وذلك لا يقبله ربُّ العباد أولا، ثم لا يُرضي عاهل البلاد المفدى ولا من يقطن هذه الأرض الطاهرة، فمن الغريب جدا أنه وعلى الرغم من تواتر القرارات المتخذة ضد الضبطيات الواقعة في جرم الغش التجاري إلا أنّها لا تزال مستمرة وبشكل مخيف جدا وعلى مستوى مؤسسات كبيرة!، ناهيك عن بعض المخالفات اليومية التي تغازل الربح على حساب الوطن والمواطنين، حيث أظهرت إحصائيات الهيئة العامة لحماية المستهلك وضمن تقريرها السنوي أن عدد الشكاوى والمخالفات والبلاغات إجمالاً التي سجلتها إدارات الهيئة بمختلف المحافظات بلغت (31636)، وعدد شكاوى المستهلك بلغت (9581)، وحول أنواع وأعداد الخدمات محل الشكاوى فكان أعلاها يتعلق بالسيارات والإطارات بمجموع (3456) أي بنسبة (36%)، وحول أعداد استخدام المستهلكين لبلاغات خط المستهلك فقد بلغت (13956) بلاغاً، وأما أنواع وأعداد الخدمات محل البلاغات فكان أعلاها ما يتصل بارتفاع أسعار المواد الغذائية بصورة غير مقبولة حيث أُحصي عددها (4018) بلاغاً أي ما نسبته (29%)، وحول المخالفات المحررة والمضبوطة في جميع إدارات المحافظات جاء أعلاها فيما يتعلق بعدم وضع الأسعار على السلع أو التلاعب بفترات الصلاحيات أو عدم توفر قائمة بأسعار الخدمات (1790) مخالفة أي بنسبة (22%)، وفي جانب الأوامر الجزائية والمخالفات المالية والغرامات فقد بلغ إجمالها (87388.5) ريال عماني - وهنا لابد من التمعّن في حجم الغرامات المُعطاة للهيئة كسلطة نافذة!.

والمُلاحظ أن الأرقام والإحصائيات الآنفة الذكر تُظهر لنا مدى تغلغل مافيا المال على حساب المُستهلك لدى كثير من المستثمرين والتجار سواء كانوا مواطنين أو وافدين، حيث إنّ بعض النافذين من التجار لم يولوا أي اهتمام بالمستهلك؛ ولا أدلَّ على ذلك ما تلا هذا التقرير في العامين المنصرمين من بعض ما اكتشفته الهيئة وأصبح رأياً عاماً بين أوساط المجتمع المدني وأعني بها قضية الحلويات المغشوشة، للأطفال والمسببة لمختلف أنواع السرطانات، علاوة على السلع المُقلَّدة لدى بعض الوكالات والتي تسببت في جُملة من الحوادث التي راح ضحيتها مستهلكون والبعض تجرع مرارة الإعاقة الدائمة، ناهيك عن عشرات الأطنان من المواد الغذائية المنتهية الصلاحية وبعضها غير صالح للاستخدام الآدمي أساسا فتُضخّ في بطون المستهلكين لتسلب منهم الصحة، ناهيك عن عشرات الاستدعاءات للسيارات المهترئة في التصنيع وكل استدعاء يضمُّ بين جنباته عشرات ومئات السيارات، علاوة على قضية الأدوية المغشوشة والتي لها أضرار جانبية فتاكة فهي ليست وفق المعايير الدولية؛ كل ذلك يدفع المستهلك للتساؤل: لماذا مسلسل الغش لا يزال مستمرا؟ ولماذا يتمادى مجانين المال في فسادهم على حساب الوطن والمواطن دون الاكتراث لما تقوم به الهيئة أو حتى البلدية أو ما يبتُّ فيه القضاء؟! ثم هل العقوبات التي ينالها المجرمون توازي حجم الضرر المادي والمعنوي والجسدي الذي ينزفه المستهلك واقتصاد الدولة؟ ولماذا سعى البعض إلى تبادل التّهم في قضية الأرز المغشوش ببركاء - على سبيل المثال- بين من يتحمل المسؤولية هل هو التاجر الموزِّع أم غرفة وتجارة عمان أم غير ذلك فهل الموقف يتطلب تبريرات أم عزم وحزم؟ وأخيرًا هل المعادلة سوِيَّة في أن أصبح مليارديرا أحلب جيوب المستهلكين بسلع فاسدة نتنة لعشرات السنين مقابل غرامة مائة ريال أو بضعة آلاف وسجن لمدة لا تتجاوز العامين كأقصى حد وتضحية ببعض (الكومبارس) ليطردوا من الدولة نهائيا؟!.

في ختام هذا المقال لابد من تسجيل موقف وطني مجيد للهيئة العامة لحماية المستهلك بجميع موظفيها الذين لا يتجاوزون الألف موظف بدءًا من سعادة الدكتور الرئيس حتى أصغر موظف بجميع فروعها في السلطنة؛ فهؤلاء استطاعوا أن يكشفوا للعيان ومن خلال إمكانيّاتهم المتواضعة أطنانا من الطعام والشراب الفاسدين، هؤلاء الإخوة والأخوات أبهروا الدولة والمواطن والمُقيم بحجم الفساد المالي الذي تتغذى عليه بعض المؤسسات التجارية من جيوب الأفراد والمؤسسات الحكومية والخاصة بدون وجه حق، أماطوا اللثام عن سلع مغشوشة ذات جودة رديئة، صدحوا محذّرين من بعض الأدوية والعقاقير التي تغزو بطون الحوامل والرُضَّع والأطفال والشباب وكبار السن فبدلا من أن تكون قنطار علاج أصبحت مستنقع سموم وفضلات مؤلمة، استطاعوا أن يجمحوا جنون الأسعار في مرافق الحياة بالدولة إلى تسعيرات عالمية أو توزاي المعقول، قارعوا حيتانا من الأسر الرابضة على صدر الاقتصاد الوطني والتي طالما استهدفت نسف ميثاق شرف هذه الهيئة والتشكيك بها وتقزيمها في عيون الآخرين، فجابهوا الأمر بعزم وحزم والأمانة التي أوكلت إليهم؛ فدفعوا السادة القضاة إلى رفع مطرقة المحكمة فتدين الفاسد وتحق الحق لأصحابه.

"أصدقائي وأحبائي هم موظفو الهيئة والمستهلك في أرض عمان الطاهرة" كلمات كان لها وقعها الأصيل وإيقاعها الجميل من لدن مسؤول تشهد أفعاله قبل أقواله عن ماهيّة رسالته ودلالاتها الوطنية الجسيمة، جزء من حوار آخر دار بيني وبين سعادة الدكتور سعيد الكعبي - رئيس الهيئة ذات يوم- رجل متواضع بكل ما تحمله الكلمة من ظاهر المعنى وباطنه، لا يستجدي مدحاً من قلم مأجور ولا يضيره ذمٌ من آخر مسعور، كان يقولها بملء فيه "هناك من يتصيَّد في الماء العكر بأن بعض موظفيك تتلألأ ( القروش) في أعينهم للتغاضي عن بعض القضايا التي تمس الوطن والمواطن" متناسين أنّ هؤلاء هم أبناء عمان الأوفياء؛ فلا يمكن لهم أن يخونوا أمانتهم لحفنة من براثن الحياة، وخاصة إن كان الأمر يتعلق بحقوق الوطن والناس، تهافت إلى ذهني تعجب مهول وجاوره تساؤل حيران كيف لهذا الرجل والذي من المنطق أن يكون على كُرسي مُدوَّر يلاطمه ويلاطفه الهواء البارد، ويتلوَّن بمختلف البشوت، ويحزم خصره بخنجر سعيدي زاهي- كما هو حال البعض - أن يترك كل ذلك الرخاء وينزل إلى السوق يستشعر آلام الناس وشكاويهم؟!، كان صريحا حينما قالها لي بالحرف الواحد: "يا سلطان إن وقعت في وحل الفساد وخيانة الأمانة فلا حق لي أن أكلَّف بهذا المقام وعليَّ أن أعود لقريتي الصغيرة في ولاية محضة!" فشُكرا لكم جميعا.

حفظ الله عُمان بسواعد هؤلاء الفتية والمستهلك الشريف، وجنَّبها شرور عُبَّاد الريال على حساب الحياة الإنسانية الكريمة.

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة