الزيف الكبير

علي بن مسعود المعشني

كثيرة هي الروايات والنظريات التي تحدثت عن تزييف الحقائق وتشويه التاريخ، وكثيرة هي النظريات والتجارب التي تحدثت ومارست حصار العقل وتزييف الوعي وإحلال التضليل والبدعة والخرافة لتستقر كمسلمات غير قابلة للنقاش في أعماق العقول وأغوارها.

وقد تحدث الكثير من الكتاب عن طرق وأمثلة بناء الجهل وتنميته لتيسير سكب كل خرافة في عقول أتباعه وتمرير كل غي، ولعلّ أبرز وأشهر هؤلاء الكتاب في عصرنا العربي الحديث هم: المفكر الاجتماعي العربي العراقي د. علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري" والمفكر والمنظر الإيراني د. علي شريعتي في كتابه "النباهة والاستحمار" والمفكر والفيلسوف العربي السعودي د. إبراهيم البليهي في كتاباته المتعددة عن خصائص العقل البشري وخصائص الجهل وتأسيس بُناه.

فتزييف العقل وحصاره ليست مهنة أو نظرية حديثة، بل فعل ضارب في جذور التاريخ وتفاصيل حياة الشعوب والمجتمعات البشرية منذ أمد بعيد، ويمكن للقارئ الوقوف على نماذج لاحصر لها في بقاع ومواطن شتى من العالم ومفاصل التاريخ.

ففي تاريخنا العربي الإسلامي - كمثال - يعلم جميعنا أن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، كان يُلقب قبل النبوة بالصادق الأمين، وبعد تكليفه بالرسالة أطلق عليه ذات القوم ساحر وشاعر ومجنون في تجل واضح لمهزلة العقل البشري، وقدرته الفائقة على إنكار الحقائق والمسلمات والبديهيات والتنكر لما ألزم نفسه به في لحظات رضا وقناعة وصدق وصفا دون إكراه أو مساومة من أحد.

قد يكون من المتفهم والمبرر تقبل الناس لتزييف حقائق تاريخية لم يشهدوا عليها ولم يعيشوا تفاصيلها، حين ينعدم المنطق ونعمة إعمال العقل، رغم أننا أمة العقل والنقل والقياس والاجتهاد، ولكن الكارثة الحقيقية تصديق ضلالات تُزيف واقعهم الذي يعيشون تفاصيله كل حين، وهو ما نراه اليوم بجلاء شديد.

فاليوم لم يعد هناك من يشغل نفسه بتزييف الوعي التاريخي للأمة بعد أن نجح إلى حد كبير في بسط بُنية الجهل بين الأجيال وأشاع عقلية القطيع والبُعد الواحد بين أبناء الأمة؛ فجعل العقلاء كالأصوات في البرية لا صدى لهم والعقل على الرف.

فتزييف الواقع اليوم امتهنه من زيّف التاريخ سابقًا ونجح في اقتطاعه وتقطيعه وانتقائيته، لهذا فلم يعد من المستغرب أن نُصدق - مثلًا - بأنّ المجوس لازالوا يعيشون بيننا وفي أقطارنا العربية والإسلامية بعد 1400 سنة من الإسلام، أي أنّ الإسلام والفتوحات الإسلامية "كذبة كبرى"، وأنّ الخوارج مازالوا بين ظهرانينا يمارسون التقية ويتحينون الفرصة لبسط أفعالهم وقناعاتهم التي لم يغير الإسلام ولا الأيام منها شيئا، وأنّ سلمان الفارسي لم يكن صحابيًا جليلًا بل مقاولًا للخنادق والاستشارات الحربية، وأنّ أبو لؤلؤة المجوسي لم يكن مجوسيًا يعتاش ويعيش بأمان مع أقوام المسلمين والعرب في المدينة المنورة بل كان خلية نائمة تتربص بأمير المؤمنين عمر (رضي الله عنه) لقتله، وأنّ الخليفة المعتصم لم ينتخي لصرخة امرأة مسلمة في عمورية بدافع الغيرة والدين بل بدافع كسب أصوات المسلمين في حملته الانتخابية، وليتموضع في قلوب المسلمين والتاريخ مجددًا تمامًا كما فعل أردوغان اليوم في مسرحية أسطول الحرية بزعم فك الحصار عن غزة.

حين نطوي سجل التاريخ والأيام لنصل عصرنا الحاضر، فسنكتشف أن صُناع الزيف والضلال يقولون إنّ المشروع المجوسي هو الخطر الأعظم على الأمّة، بمعنى أنّ المشاريع الأمريكية والفرنسية والبريطانية ومن لفّ لفهم هي مجرد مشروعات لزراعة الورد والفستق وغرس الفضيلة والقيم بين أبناء الأمة المُنهكة.

وأنّ تيار المقاومة هو مجرد أداة "وفصول مسرحية" للغرب "العدو" التاريخي للأمة و"الحليف" الوثيق لها!! وأنّ التدخل الغربي في سورية هو لحماية شعبها من بطش النظام وبسط الحرية والعدالة والديمقراطية كحال العراق وليبيا.

إيران عميلة للغرب بدليل توقيعها للاتفاق النووي معه، أمّا أدوات الغرب في المنطقة فهم حلفاء له وليسوا عملاء أو شركاء له في مخططاته.

وأن الكيان الصهيوني لم يغتصب فلسطين بل استثمرها وفق القانون الدولي (99) عامًا وبموافقة ومباركة من أهلها بعد أن "جنحت" سفينة تحمل عددا من الصهاينة ورست على شواطئ فلسطين بعد أن ضلت طريقها إلى أوغندا، لذا فإنّ جميع الانتفاضات والمقاومات مجرد حركات إرهابية أخلت بعقد "النعمة والتنمية" مع الكيان الصهيوني، لهذا فالتطبيع واجب شرعي وحسن جوار أمرنا به الدين وأخلاق العرب، وامتثالًا لقول الحق تبارك وتعالى في سورة الأنفال:( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه) لهذا علينا توجيه كل جهدنا لمقاومة المجوس ومشروعهم الاحتلالي القادم دون غيرهم لنُصرة الإسلام والمسلمين وأهل الكتاب. وفي الختام علينا أن نتساءل: ماذا لو "اكتشف" هؤلاء المُزيفون بعد كل هذا الضجيج والوعيد أنّه لا وجود لـ"المجوس" في إيران أو جزيرة العرب اليوم وأنّهم قد فنوا مع فناء مشركي مكة!؟ وكذلك: الخوارج والروافض والنصيريين والقبوريين والأشاعرة وغيرهم، وماذا لو اقتضت مصالح الكبار وقواعد المصالح والاشتباك ذلك، كيف سينفذون من أتباعهم ويواجهون ذكاء العالم وعقولهم بعد الشحن والتعبئة الطائفية المحمومة والحملات المنظمة الهائلة لتزييف التاريخ والواقع وحصار العقل!؟ إنه بصريح العبارة: "صراع محتدم من أجل البقاء على عرش الغباء "فكم نحن مُستحمرون.

قبل اللقاء: كنا فيما مضى نردد مقولة: لو تحدث جميع الأموات من قبورهم لأكتشفنا أنّ التاريخ جملة من الأكاذيب. أمّا اليوم فنقول: لو تحدث جميع الأحياء فيما يعرفون لساد الهدوء العالم وظهر لنا الحجم الهائل للزيف والتضليل من حولنا.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك