إضاءة
مسعود الحمداني
لا أعلم في الواقع كم حمارا أكلتُ طوال سنوات عمري، ولا كم كلباً التهمتُ وأنا (أمزمز) العظم عن آخره في أحد المطاعم على اعتبار أنّه لحم خروفٍ صوماليّ، ولا أذكر كم غرابًا تناولتُ على أساس أنني أتناول دجاج (مسالا) مليئاً بالبهارات والتي لا أعرف ـ هي الأخرى ـ مدى صلاحيتها للاستهلاك الآدمي، ولا أعلم كم ليترًا من المشروبات المُنتهيةِ الصلاحية شربتُ، ولا كم طعامًا فاسداً تغدّيتُ أو تعشيتُ، ولا أعلم كم وافداً استهبلني وباعني قطع غيارٍ مُقلّدة في الصين مستغلا جهلي بالميكانيكا ليوهمني أن ما أشتريه هي قطع يابانية أصلية، ولا أذكر كم كيس (عيشٍ) باسمتيّ اشتريتُ منبهرا بحبته الطويلة، ورائحته الزكية فأكلته بنهمٍ وشغفٍ شديدين، وطبخته لضيوفي، فأكلوه شاكرين حامدين.
فعلاً أحتاج إلى جردٍ كاملٍ بما أكلتُ، وما شربتُ، وما لبستُ، وما استهلكتُ طوال هذه السنوات، على الأقل حتى أستطيع أن أقاضي من أكّلني، وشرّبني، وكساني، و(استهلكني)، لأنّه من خلالي، وعلى حساب معدتي وأمعائي، وفوق أكتافي وأكتاف أمثالي من الفقراء والبُسطاء والسذّج وصل إلى مصاف الأثرياء، ومنهم من بنى مُجمعات تجارية، ومنهم من أصبح (مهراجا) في بلاده، ومنهم من لا يزال يمتص دمي من الوريد إلى الوريد كل ليلة، حين أنام وحين أصحو، وكأنّه (قراد) أو خفَّاش لا يعيش إلا على دماء النَّاس، فإن تمّ اكتشافه (طار) بما يملك إلى بلادٍ أخرى وواصل رحلة كفاحه هناك.
كلما اكتشفوا غشاشاً أو مصاصَ دماءٍ جديدا حمدتُ الله كثيرًا ليس على الإمساك به، بل لأنني أطمئن على أنني ما أزال أتمتع بصحةٍ جيدة، استطاعتْ أن تصمد في وجه كل الظروف التي تحاول المساس بها، بل جعلني ذلك أتحوّل إلى جمعيةٍ خاصةٍ للرفق بالحيوانات، لأنني أصبحت أحسب أعداد الكلاب والقطط التي في الحارة كل ليلة، وأفتقد أي واحدٍ ينقص منها، كما أنني أيقنتُ الآن سبب نقصِ أعدادَ الغربانِ والحميرِ في البلد..
لا أدري ـ بعد كل هذا ـ لماذا يثور النَّاس على (أرزٍ فاسد)؟!!..مُجرد أرز (لا راح ولا جاء)، فالأمعاء والمعدة لم تشكوا شيئاً، لأنهما اعتادتا وتعوّدتا طيلة سنوات على أكل كل ما يصل إليهما من قُمامة التجار الذين فسدت ضمائرهم قبل فساد الأرز..ولا أفهم لماذا يتخيّل الفقراء أنّ الشركة الموردة والموزعة لمُعظم أنواع الأرز في البلد سوف تُعاقب بالإغلاق، ويُسرّح موظفوها، ويُحبَس أصحابها؟!!..لا أدري فعلاً لماذا يعتقد هؤلاء البسطاء أنّ شركةً كبرى تغذّيهم بالأرز طويل الحبّة وبكثير من المنتجات الغذائية منذ أن وعوا الدنيا سوف تُعاقب هي ومن يقف وراءها..، هذا إجحافٌ ما بعده إجحاف في حق من يملأ بطونهم بالأكل كل يوم، وهو كلام الحالمين، ممّن لا يتعدى تفكيرهم السطح، والذين يتوقعون أن وزارة القوى العاملة ستطبّق قوانينها الصارمة وستحظر أنشطة الشركة، وأن القانون سيأخذ مجراه، وسيُعاقب أصحاب الشركة والمتسترين عليها بالسجن المؤبد والغرامات المليونية، جراء ما اقترفوه في حق النّاس، وصحتهم، وبسبب ثرائهم غير المشروع، وسيتم التشهير بهم كما يُفعل مع صغار اللصوص والمجرمين..
في 2013م اكتشفت الهيئة العامة لحماية المستهلك ما يُقارب 85 طناً من الأرز المغشوش في ولاية صحار، (يعني أكثر من أرز بركاء الذي لا يتجاوز 22 طناً)، حيث تم التلاعب ـ آنذاك ـ في تواريخ إنتاجه، وجودته، وحكمت المحكمة حينها على المُتهمين بالسجن ستة أشهر والإبعاد عن البلاد، وبغرامات لا تتجاوز في مجموعها الألف وأربعمائة ريال لكل مدانٍ!!..(يا بلاش)!!. ولن تكون القضية الجديدة بأضخم من قضية قطع الغيار المغشوشة، والتي أثري أصحابها ثراء فاحشًا على حساب المستهلك المغلوب على أمره، وفي النهاية صدر الحكم بالسجن لمدة سنة على المتهمين وغرامات لا تشكّل ربح ساعةٍ واحدةٍ من أرباح المستفيدين، وإبعادٍ للوافدين الذين ربما كانوا كبش فداء لآخرين يجلسون خلف الكراسي، والغريب أنّ المستهلك هو الضحية، ورغم ذلك لم يصدر حكم بتعويض أحدٍ منهم!!..
أذهبُ إلى أحد المجمعات (المحترمة) لأشتري بعض احتياجاتي اليومية بأمانٍ بعيدًا عن المحال الصغيرة التي قد لا تكون آمنة، أقفُ أمام رفّ السلعة (الماركة) أقرأ بتمعنٍ تاريخ الإنتاج والانتهاء، أضعه في السلّة ثم أخرجه منها وأعيدهُ إلى الرف..فما أدراني أنّه لم يتم التلاعب بتواريخ التعليب والإنتاج؟!!..أعودُ إلى المنزل حاملاً حلمي بتشريعٍ صارمٍ وحازمٍ يجرّم المتلاعبين بعقوباتٍ رادعةٍ تجعل من يُريد التلاعب والغش بقوتي وقوت عيالي يفكّر ألف مرة قبل الإقدام على فعلته..ولكنه يبقى مجرد حلمٍ كبيرٍ لمستهلكٍ صغير..
أتحسس معدتي وأحمد الله على أنّها لا تزال صامدة في مكانها.
مسعود الحمداني