زينب الغريبيَّة
لا أعرفُ ما الذي يُمكن أن يُقال أمام حالات الغش الكبيرة التي تتكشف شيئا فشيئا في مجتمعنا، والتي يتنوَّع أبطالها من رجال أعمال كبار إلى موظفين صغار، من وطنيين إلى وافدين، وكأنَّ الغش أصبح قَدَرًا لا يمكن الفرار منه، فهو يحيط بنا في المؤسسات والأسواق والمدارس والجامعات، فأينما نولِّي وجوهنا نجد مظاهرا للغش، ويظل السؤال المرير: لماذا أصبح مجتمعنا معرَّضاً لكل هذا الغش؟ لماذا يَسْمح مجتمعٌ إسلاميٌّ بأن يُكوِّن تربة خصبة لنمو الغش؟ أين نعثر على أولئك الذين لا يغشون؟ أين هم؟ فقد سَئِمنا كل ما يجري، لا نريد أن تتصدَّر أخبار الغش المنصات الإعلامية التكنولوجية، نريد أن تتصدرها النماذج الأمينة المشرِّفة، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بوقفة حقيقية؛ لأنَّنا نُواجه أزمة عميقة حين تتحوَّل المعاملات الاقتصادية إلى معاملات مشبوهة قائمة على الغش والاستغلال؟ ما الميول التي تدفع رجال أعمال لديهم من الثراء ما لا يُحصى إلى التعامل بالغش؟ قد نتفهَّم أن يقوم بذلك أفرادٌ لديهم حاجة، لكن: لماذا تحترف الغش هذه الفئة، وتدافع عنه فئة أخرى وتتلمس الأعذار وتسوِّق الحُجج لهم؟ هل وصلنا إلى مرحلة أن يقوم البعض بتشريع الغش والدفاع عن مرتكبيه؟
وأنا أتأمل فيما يَجْري، وأستعيد كثيرا من الخبرات التي تعرضت لها، من غش أو تلك التي سمعتُ عنها، أيقنتُ أننا أمام معركة كبيرة تتطلب الكثير من الصبر لمواجهة هؤلاء الذين يروِّجون للفساد في مجتمعنا، الذي عرفه الناس بالأمانة ولم يعرفوه لا بالسرقة أو الغش، فكيف نسمح لفئة "ضالة" أن تجعل من مجتمعنا البسيط الصغير مكانا للغش والخداع، لا أحد معفي من المسؤولية لأنَّ نطاقات الغش تتسع، وأشكاله تتعدد؛ فمن ذلك المسؤول الذي يكتب تقريرا غير حقيقي عن موظف يهضمه فيه حقه وكفاءاته، إلى ذلك المسؤول الذي يحرم مؤسسته من وجود موظف من أبناء وطنه لديه خبرة وعلم سوف يُسهمان في الارتقاء بالمؤسسة، إلى ذلك المقاول الذي يغش في مواد البناء، إلى ذلك الطالب الذي يغش للإجابة عن أسئلة الاختبار، إلى ذلك الأستاذ أو المحاضر الذي يتساهل مع الغش، إلى تلك الشركة الكبيرة التي تستعين بعمال ليسوا لها ولا يملكون أية مهارات في بناء صرح تنموي كبير، إلى رئيس أو رئيسة هذه الجمعية المدنية التي توظف أموال الجمعية لصالحها الخاص، إلى هذا الذي يدَّعي "التدين" ويطيل لحيته ويصر على أنه يمثل الإسلام، إلا أنه يُصرُّ على أن يغش في تعاملاته، فلا يصدق قولا، ولا يجهر بحق، ولا يؤدي مالا عليه، فإلى أين نتجه؟ وأي مُثُل يمكن أن نقدمها يمكن أن تعيننا في الحفاظ على أصالتنا؟
لقد آلمني ما جرى -ولا يزال- من حلقات مسلسل لا نهاية لحلقاته، وكل حلقة تبث حزنا أكثر من الذي تبثه سابقتها، والضحايا يتزايدون ولا أحد يلتفت إليهم، والأخطر قادم لأن ما نعيشه يشكل حاضنة يُمكن -إنْ لم يكن لدينا تدخل سريع- أن تفرِّخ كثيرا من النماذج البشرية غير الأمينة التي ينظر إليها على أنها نماذج ناجحة، وتكتسب مكانة كبيرة في المجتمع، ولا يرى الصغار حقيقة إلا تلك التي تقدم لهم "السارق"، و"الغشَّاش" بأن هو النموذج الناجح الذي تتولى وسائل الإعلام تلميع صورته "المغشوشة"، عندنا لن نجد أحدا نلومه على ما وصلنا إليه إلا أنفسنا؛ لأننا واجهنا الأمر كعادتنا "بلامبالاة غريبة"، هكذا نحن غير مبالين لما نحدثه من شرخ كبير في وطننا، بما نقوم به من تمكين لأولئك الذين يدسون السم في العسل، لأولئك الذين يخلطون الماء بالزيت، لأولئك الذين يخلطون الغث بالسمين، لأولئك الذين لديهم طاقة تدميرية يعملونها في هذا المجتمع، لأولئك الذين لا ضمير لهم حتى تخاطب ضمائرهم، لأولئك الذين على استعداد لعمل أي شيء يرضي الأنانية المفرطة التي تسيطر عليهم.
"من غشنا فليس منا".. عبارة أوجز لنا فيها رسولنا الكريم الحلَّ في التعامل مع هؤلاء، "ليس منا" الذي يغشنا ويسممنا ويتسبب لنا في كثير من الأمراض، "ليس منا" هذا الذي يعيق مؤسساتنا من التطور والتجدد، "ليس منا" هذا الذي لا يمكن لكفاءاتنا الوطنية، "ليس منا" هذا الذي يسهل للآخرين الإضرار بسلامة وطننا وأمنه، "ليس منا" أولئك الذين يدافعون عن أولئك الذين يغشون أبناء هذا الوطن، "ليس منا" من يعيق الجهود المبذولة للنيل من هؤلاء، نقولها كما قالها رسولنا الكريم "ليس منا" إلا من عمل واجتهد من أجلنا وأجل هذا الوطن، ولقد اتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتبين الحق من الباطل، واتضح الدور الذي يجب أن يقوم بها كل فرد عماني من أجل إيقاف عجلة الغش التي تريد أن تفرمنا تحتها، وإن لم يعِ كلٌّ منا مسؤولياته من مكانه، ونعي أن القطرات تصنع جدولا فإنَّ الثمن الذي سندفعه ستكون ضريبته كبيرة جدا تفوق ما دفع من قبل.