توقف أيّها المثقف!

معاوية الرواحي

ليس هُناك حاليا ما يمكن تسميته بالمشهد الثقافي العُماني، كلمة المشهد الثقافي العُماني تحيلنا إلى صورة بصرية نرى فيها (مشهدا) متكاملا من بعيد، وهذا المشهد يقوم بفعل، ويقوم أيضا بتفاعل مما يؤدي إلى إعطائنا معطيات كاملة تسمح لنا أن نطلق حكما عليه.

سأكتفي بتسمية (اللحظة) الثقافية. هذا هو نصيب المرحلة العُمانية الحالية من الثقافة، مجرد لحظة. وفي هذه اللحظة تتجلى لدينا الحالات المؤقتة للثقافة في عمان، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر، مقال يقيم الدنيا ومن ثمّ يقعدها بعد أيام، أو مجموعة تغريدات لمثقف متابع بشدة تنتشر عبر تطبيق الواتساب، أو مقالة نارية في جريدة يتبادل فيها المثقفون الخصام واللوم، أو العتب. لحظة وراء أخرى مثل فلاشات الكاميرات القديمة.

كلمة المشهد الثقافي العُماني كبيرة على وصف ما يحدث، فما يحدث من شتات في المشهد الثقافي يتحمل مسؤوليته الجميع، المجتمع من جانب، والمؤسسة الرسمية، والطرف الأقل لوما وهم المثقفون أنفسهم، الذين استطاعوا الحفاظ على الرمق الأخير من العمل الثقافي، من العمل الذي كان يصنع (مشهداً) إلى العمل الذي ما يزال يصنع (لحظات) ثقافية نبيلة وجميلة تحافظ على نصيبنا من الأمل، وتدفع عنا اليأس بوفاة الثقافة في عُمان. هناك ما يشتغل ولم يتوقف، وهؤلاء هم حراس الشعلة الأوفياء طوبى لهم.

اليوم سأطرح سؤالا مهما عليك أيها القارئ. هل وصلنا إلى حالةٍ من الاقتناع العام أنّ الثقافة أصبحت عدوةً إلى أهم شيء يحدث في البلاد العُمانية؟.. التنمية !!!

يمكنك أن ترى بوضوح وأنت تتابع اللحظة الثقافية العُمانية الحدة في تعريف الثقافة بين الأطراف الثلاثة الأهم في عُمان. الأقوى: وهي المؤسسة الرسمية. والأكثر عددًا: المجتمع. وأخيرًا الجناح الكسير: المثقفون أنفسهم.

التنمية في عُمان هي الشغل الشاغل، والهدف الأول للإدارة المؤسسية العليا في عُمان. هذه البلاد التي بنيت في معجزة تنموية عبر هذه السنوات ما تزال في حالة تنمية وبناء مستمرين. الجوانب التي انتهى التوسع الأفقي فيها بدأت بالتوسع عموديا، والجوانب التي انتهى التوسع العمودي فيها بدأت بالتوسع أفقيا.

اختلفت الرسالة الحكومية للمواطن وتغيرت، وكما أصبح للفرد المنتمي للمجتمع منابر تعبر عن رأيه بوضوح كذلك أصبح للمؤسسة الرسمية منابر قوية وأشخاص (وما أكثرهم !!) يعبرون عن رأيها. لم يعد خطاب التنمية في عُمان قديما ومستهلكا، أي إنسان منصف يجب عليه أن يقر بذلك. الخطاب التنموي العماني الجديد أصبح متناسبا مع ضرورات العصر الحالي.

الخطاب القديم الذي يتحدث عن المدارس، وعن المستشفيات، أصبح يتحدث عن تقنيات جديدة للمدارس، وعن تقنيات جديدة في المستشفيات، وعن دورات جديدة للمعلمين، لاحظ عزيزي القارئ أنني أقول (الخطاب)، أي أن حدوث ذلك من عدمه رهن متابعة الواقع، ومن يهتم بالمقارنة بين ما يقال وبين ما يحدث؟ هذه إحدى مهام المثقف النبيلة والتي لا يقوم بها غيره، هنا نكتفي بالخطاب فقط لا غير دون مقارنته مع الواقع.

خطاب المجتمع لم يتغير لأنه لا يتسم بالثبات، والمصلحة هي القاعدة الرئيسية له منذ الأزل، في عمان أو غير عمان، وما يثير الرأي العام العشريني اليوم، لا يثير الرأي العام للخمسينيين الموشكين على التقاعد، كنا في يوم من الأيام نعاني لنستقرئ الرأي العام، الآن لم يعد ذلك صعبا، يمكنك تغطية أكثر من نصف المجتمع بما يُكتب في مواقع التواصل، والباقي يمكن تغطيته بما يكتب في مجموعات الواتسآب، والقلة القليلة من كبار السن يتم تلقي آرائهم مشافهة، خطاب المجتمع أصبح واضحا ولم يعد مسألة معقدة. عليك فقط أن تختار الدائرة الملائمة.

خطاب الحكومة واضح أيضا (لا يجب أن يقف شيء في وجه التنمية)، عملية التنمية عملية معقدة ومتداخلة مع مئات الأشياء، والتنمية والجودة مسألة فلسفية صعبة الحسم، هل يجب عليك أن ترضي العُملاء الموجودين، أم عليك أن تبني شبكة من الخدمات ليحصل الجميع على الخدمة؟ مثلا في حالة خدمات الهاتف، هل عليك أن تتأكد من رضا العملاء الذين اشتركوا في الإنترنت المنزلي؟ أم عليك أن تتأكد من تغطية محافظة مسقط كاملة؟؟ خطاب الحكومة واضح لأن الأرقام تقف في صف الحكومة، ما زال هناك الكثير من العَمل، وهذا العمل ما زال في بداياته لأنّ عُمان تستحق الأكثر والأكثر.

أين اختفى المثقف التنموي؟؟ هل أصبح له صوت أو صدى؟ للأسف الشديد فقد المثقف التنموي قدرته على إقناع المجتمع أو الحكومة بما لديه من أفكار ورؤى لأسباب؛ منها تغير تعريف العمل الوطني الثقافي في عمان، وثانيا السلبية التي يحملها المجتمع تجاه المثقفين وآرائهم، فهم يذكرونه دائما أن الواقع (ناقص)، وكذلك يدفعون بمشاعره إلى الضيق والشعور بالعجز وقلة الحيلة. من الصعب أن يعترف المثقف أنه لا يملك مقاربة لتغيير الواقع لأنه لا يملك مقاربة لفهمه!!

على عكس ما فعله الجيل السابق من الكتاب الذين جاهدوا للإمساك بعصى الإنصاف من المنتصف، الآن يحمل المثقف خطابا جديدا، هل أقول أنه مخطئ وغير محق؟؟ لا أقول هذا أبدا، ولكن أقول إن استقبال المجتمع له قد تغير جذريا، كان المثقف (الناقد) هو اختيار المجتمع الأول، المجتمع لم يعد يحتمل المزيد من الجلد، لسبب بسيط، لأنّ الحياة تجلده بما فيه الكفاية. أمّا من جهة الحكومة فالجميع يعرف كيف تتعامل مع المثقف الناقد، ولا سيما لو كان يهيج الرأي العام أو الجماهير، التعامل لم يعد وديا كما كان في السابق، وليت الأيام الجميلة تعود.

المثقف ليس عدوًا للمجتمع، وليس عدوا للدولة، وليس عدوا للتنمية. إنه إنسان يختار أن يختلف وأن (يخاصم) بعض الأفكار. من الظلم الشديد أن نطلق صفة (عدو) التنمية على شخص (لا يعارضها)، نعم الخطاب السائد الآن للمثقف هو (المثقف الناقد)، ولكن المثقف الناقد لا يقف في وجه التنمية وإنما يحاول أن يرفع من موضوع الجودة والحقوق الفردية.

مثال الحقوق الفردية والجودة ما يحدث بين المجتمع وشركات خدمات الهاتف، لا يهمه كثيرا سرعة النت بقدر ما يهمه أن تصل للمنزل وأن يتخلص من عبء الاشتراك الهاتفي المكلف له، أين سيكون الخيار؟؟ الجودة أم الكم؟؟

الحكومة تريد تغطية مساحات أكبر من البلاد، والشركات تريد رفع الأسعار لتتمكن من بناء البنية الأساسية وبالتالي التوسع أكثر، والمجتمع لا يريد ما تريده الشركات من رفع أسعار، ولكنه يريد ما تريده الحكومة من توزيع الخدمات، والمثقف مشغول عن كل هذه القضايا باكتشاف الذات الجديدة، وبعيش صدمة الواقع المؤلم التي تجلت في السنوات الأخيرة.

إنني أرى أنّ قضية توزيع الخدمات الإلكترونية والدفع بمنظومة الحكومة الإلكترونية لتتوزع بشمولية على محافظات السلطنة، ورفع استعداد البنية الأساسية لمجتمع كثيف السكان هي القضية الأولى، إنّ زيادة عدد المواليد والعلاقة بين عدد المعلمين والمدارس قضية وطنية لا تقل أهمية عن القضايا الأخرى، العمل الوطني لا يقتصر على المطالبة بالحقوق السياسية يجب أن يقف شخص ويقول ذلك بوضوح. المثقف مشغول بأشياء كثيرة، والمجتمع مشغول بأشياء أخرى.

من أهم ممارسات المثقف عملية فلترة المشاهد العامة للوصول إلى الصورة الأقرب في الواقع، ومهما جادلنا فإنّ هذه العقول المثقفة بخبرتها في الواقع وفي الخيال، بخبرتها في الأدب والفن، وبخبرتها في المجتمع والحكومة هي الأكثر قدرة على استئصال التزييف والخداع في الخطاب، وهي الأقدر على إعطاء الأشياء حجمها الحقيقي، في نظري هذه هي القيمة الأهم للمثقف في عمان، ولا سيما في المرحلة الحالية، أن يعطي الأشياء قيمتها الدقيقة، أن يرفع القيمة المنتقصة في خطابٍ ما، وأن يخفض من القيمة المبالغ فيها في خطاب آخر، أقول وأكرر إن المثقف هو الأقل لوما من الأطراف الموجودة في عمان لقلة حيلته، ولكن استمرار هذا الخصام داخل المبنى الثقافي وهذا الشجار الذي لن يفضي إلى نتيجة قد أصبح عاملا غير صحي، امتلأنا بالأفكار، فمتى يبدأ البناء؟ متى؟.

تعليق عبر الفيس بوك